عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
أخرجه الترمذي وغيره. وصححه الألباني في مشكاة المصابيح .
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، بل هو أحد أعمدة الآداب الإسلامية. فيه توجيهٌ للأمة بالاشتغال بما ينفعها، ويقرّبها من ربّها،
وإرشادٌ إلى اغتنام الأوقات بالخيرات. والعمر أقلّ وأضيق من أن يشتغل أحد فيه بما
لا يعنيه، وقد قال بعض السلف كلمة عظيمة تدل على فقههم - رضي الله
عنهم- واهتمامهم بأمر دينهم، قال: "علامة إعراض الله سبحانه وتعالى عن العبد
أن يشغله بما لا يعنيه".
ومن الأمور
التي يشملها الترك في الحديث: ترك فضول الكلام، ولغو الحديث؛ لأنه يتعلق بجارحة
خطيرة، ألا وهي جارحة اللسان. ألا وإن من علامة إعراض الله تعالى، عن العبد أن
يجعل شغله فيما لا يعنيه..
قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في شرح
هذا الحديث: "ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه
ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أن تتعلق عنايته
به ويكون من مقصده ومطلوبه".
فماذا نقول في
واقعنا؟!
كم من إنسان من يسألك: من
أين جئت؟ وماذا قال لك فلان؟ وماذا قلت له؟ وما أشبه ذلك في أمور لا تعنيه ولا تهمه.
كم من إنسان يتدخّل
في خصوصيات جاره، من حيث لون الحائط، وترتيب الأثاث، ودراسة البناء، واختيار توجهاته..
كم من إنسان يتدخّل
بوضع الوصفات الطبية لأحد الأقارب أو الأصدقاء في زيارته له في حالة مرضه، وربما طعن
في نوع الدواء أو الطبيب المشرف عليه..
كم من إنسان مشغول
بتتبع أخبار المباريات من أولها إلى آخرها.. ولا هو لاعب.. ولا مدرب
كم من إنسان مشغول
بتتبع الأخبار التجارية، بل والسياسية وغيرها.. وهو ليس في ذلك ناقة ولا جمل..
وكم من إنسان من لا
شغل له اليوم إلا بمطالعة أخبار الساسة والرؤساء، والتحدث عنها بين الناس، وكأنه كان
يجلس معهم..
كم من إنسان يتدخل
فيما لا يُحسنه ولا يُتقنه ولا يعلمه، مما ليس داخلاً في تخصُّصه وخبرته، وما ليس
من مطلوباته ولا شؤونه. كيف وإذا كان هذا المُتَدخَّل
فيه من مسائل الخلاف!. وما يفعل ذلك إلا رغبة في التعالي وانتقاص الآخرين، والحطّ من قدرهم، مع ابتغاء التصدُّر
والتعالُم وصرف الأنظار.
ألا ما أكثر الذين
يتفرغون ويقضون وقتهم في المراقبة والتدخل والتعدي على خصوصيات الآخرين، مع أنه أمر لا يعنيهم
دينا ودنيا، وللأسف إن هؤلاء قد وضعوا انفسهم
حكاما على خصوصيات غيرهم وعلاقاتهم الشخصية، من أجل إشباع أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم.
ألا كم من مجالس عُقدت، وولائم نُصبت، وليالٍ
قُطِّعت، يخوض فيها أصحابها فيما لا يعنيهم،
ويتكلَّمون فيما لا ينفعهم، ويستمعون إلى أمور طهّر الله منها أيديهم وأرجلهم، فأبوا إلا أن يلوكوها
بألسنتهم، ويفتحوا لها آذانهم، وقد تكون موبقات الأسماع والألسن أعظم من موبقات الأيدي والأرجل، "... وهل يكبُّ
الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"؟.
ألا كم من المشاكل الفردية والجماعية بسبب تدخل
البعض في شؤون الآخرين، قولاً وعملاً، سؤالاً وتجسساً، فكم من صدور أوغرت، وخصومات
أججت، وأزواج طلقت، وأسرار كشفت، من تدخل الآخرين فيما لا يعنيهم، وإعراضهم عن هذا
الحديث العظيم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
ولو تأملت وتفحصت
لرأيت وأدركت أنه لا يهتم بالصغائر إلا الصغار، ولا يفتش عن المساوئ إلا البطَّالون، وإن يهلكون إلا أنفسهم
وما يشعرون.
فيا أخي: إذا أردت
أن يحسن إسلامك، فاترك ما لا يعنيك من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول
المباحات التي لا تحتاج إليها. واشتغل بما يعنيك من صحة اعتقاد، وكمال إيمان،
وصلاح عمل. واطلب ما هو من ضرورات معاشك، والتي لا قيام لحياتك بدونها من ألوان
المباحات.. واعلم أن الضابط الصحيح لترك ما لا يعني هو الشرع، لا مجرد الهوى
والرأي، أو تأثير الآخرين ونظرياتهم.. وبالجملة ـ أقول ـ :فإن كل أمر لا تعود على
العبد منه منفعة لدينه ولا لآخرته، فهو مما لا يعنيه، وكل أمر يخاف من تركه فوات
أجر أو بارتكابه حصول وزر، فهو مما يعنيه. وبعبارة أخرى: فإن كل ما يقرب إلى الله
ـ عز وجل ـ فهو مما يعني، وما لا يقرب إليه فهو مما لا يعني.
وبعد: فيا رعاكم
الله، فإنَّ تَدخُّل الإنسان في ما لا يعنيه،
وتطفُّلَه على تخصّص ليس منه ولا هو من بابته في وردٍ
ولا صدرٍ، لهو عين الإفتيات. وكفى بهذا سوءًا ووقوعًا في مخالفة
هدي النبي صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
نسأل الله تعالى
أن يعيننا على حسن استغلال الأوقات، وأن يجنبنا فضول الملذات، إنه جواد كريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق