في يوم الجمعة الخامسَ عشرَ من ربيعٍ الآخر
سنة ثمانٍ وخمسين وستِّمائةٍ 658هـ، لمّا
اجتاح التتار بقيادة هولاكو أرض الشام، قام الإمامُ العالمُ الجليلُ ابنُ المنيِّر
المالكي قاضي الإسكندرية في أيام العز بن عبد السلام قام خطيبًا في الناس، وقد ذكر
هذه الخطبةَ الإمامُ الذهبيُّ في كتابه تاريخ الإسلام، قال فيها:
الحمد لله الَّذِي يرحم العيون إذا دمعت، والقلوبَ إذا خَشَعت، والنَفوسَ إذا خَضَعت، الموجودِ إذا الأسباب انقطعت، المقصودِ إذا الأبواب امتنعتْ، اللّطيفِ إذا صَدَمَتْ الخطوبُ وصدَّعت، رُبَّ أقضيةٍ نزلت فما تقدّمت حتّى جاءت ألطافٌ دفعت، فسُبحان من وسِعت رحمته كلَّ شيء وحُقَّ لها إذا وسِعت.
أحمده
لصفاتٍ بَهَرتْ، وأشكره عَلَى نعمٍ ظهرتْ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللَّه وحده لا
شريك لَهُ، شهادةً عَنِ اليقين صدرتْ.
وأشهدُ أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، بعثَهُ
والفتنةُ قد احتدَّت والحاجة قد اشتدَّت، ويدُ الضَلالِ قد امتدَّت، وظُلُمات
الظُّلم قد اسودَّت، والجاهليّةُ قد بلغتْ غايتَها وجحدت دَيَّانَها، فجاء بمحمدٍ
صلى الله عليه وسلم فملك عِنانها وكَبَتَ أعيانها, وظهرت آياتُه فِي الجبابرة
فأهلكت فرسانَها، وفي القياصرة فنكَّسَتْ صُلبانَها، وفي الأكاسرة فصدَّعت
إيوانَها، وأوضح عَلَى يده المحجة وأبانها، صلى اللَّه عَلَيْهِ وعلى آله، فما
أكرم الشجرة وأغصانها، وعلى أصحابه ومن حوى الحوزة وصانها، صلاة إذا أفضت صحيفة
الحسنات كانت عنوانه.
أيها النّاس: خافوا اللَّه تأمنوا فِي ضمان وعده الوفي. ولا تخافوا الخلق وإن كثروا فإن الخوف منهم شركٌ خفيّ.
ألا وإنّ من
خاف اللَّهَ خاف منه كلُّ شيء. ومن لم يخفِ اللَّهَ خاف من كلِّ شيء. وإنما يخاف
عزّ الربوبيّة من عرف من نفسه ذُلّ العبوديّة. والاثنان لا يجتمعان فِي القلب ولا
تنعقد عليهما النية. فاختاروا لأنفسكم إمَّا اللهَ وإمّا هذه الدنيا الدَّنية. فمن كانت الدنيا أكبرَ همه لم يزل مهمومًا. ومن كانت زهرتها
نُصب عينه لم يزل مهزومًا. ومن كانت جِدَّتُها غايةَ وَجْده لم يزل مُعْدَمًا حتّى
يصير معدومًا.
فالله الله عباد الله! الاعتبارَ الاعتبارَ، فأنتم السُّعداء إذا وُعظتم بالأغيار. أصلِحوا ما فَسد، فإنّ الفساد مقدّمة الدّمار. واسْلكُوا الْجِدّ تنجوا فِي الدّنيا من العار وفي الآخرة من النار.
اتقوا اللَّه وأصلِحوا تُفْلحوا، وأَسْلِموا تَسْلَموا، وعلى التّوبة صمّموا واعزموا، فما أشقى من عقد التّوبة بعد هذه العِبَر ثمّ حلّها، ألا وإنّ ذنبًا بعد التّوبة أقبحُ من سبعين قبْلَها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق