هي سورةٌ
مَدَنيةٌ كريمةٌ، وهي على وجازتها ـ 18 آية ـ سورةٌ جليلةٌ ضخمةٌ، تتضمن حقائق
التربية الخالدة، وأسس المدنيّة الفاضلة، حتى سمَّاها بعض المفسرين "سورة
الأخلاق". وسواء كان نزول بعض الآيات فيها بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات، أم كان
تشريعا لتلافي مثل هذه الحالات التي ذكرت فيها، فإنها تمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية
من التفكك والتفرق. ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح. والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته .
النظرة العجلى في السورة، قد توحي لصاحبها أن هذه
السورة قد اشتملت على عدة موضوعات متفرقة، ولكن النظرة المتأنية الواعية تصل بصاحبها إلى
أن السورة تتناول موضوعا واحدا.
فالموضوع
الأساس الذي جاءت من أجله السورة هو الإيمان، ومن ثم جاءت الموضوعات الأخرى متفرعة
عنه وموصلة إليه.
وإنك لتلمس
هذا الجانب في أول كلمة في السورة، عندما ينادي الله - جلا وعلا - بـ (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). وقد تكرر هذا النداء عدة مرات، حيث أنه في كل آية
بدأت بهذا النداء، ينبه إلى خصلة تنافي
الإيمان، ولا يليق أن تقع مع المؤمن، وكأنه يقول إنكم مؤمنون، ولكن ما يقع منكم
يؤثر في إيمانكم، بل قد يكون سببا لذهاب الإيمان: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).
وقد
تكرر هذا النداء خمس مرات في السورة.
ففي المرة الأولى: ينهاهم عن
التقدم بين يدي الله ورسوله، والتقدم قد يكون محبطا للعمل، ومذهبا لِلإِيمَانِ.
وفي الثانية: ينهى عن رفع
الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ويبين أن هذا خطير على إيمان صاحبه (أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).
وفي الثالثة: يأمر بالتثبت،
فإن العجلة تضعف الإيمان وتؤثر فيه، (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ)، (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ).
وفي الرابعة والخامسة: ينهي
عن بعض الخصال، التي لا يليق أن تصدر من المؤمن (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)،
(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ). وهل
يجتمع كمال الإيمان، وأكل لحم الميتة - إلا في الضرورة - فكيف إذا كان هذا الميت
إنسانا، وأبشع من ذلك أنه أخوه.
فانظروا يا رعاكم الله: كيف جاء النداء باسم الإيمان وسيلة
لتصحيح مساره، وتقويم اعوجاجه، وإكمال نقصه في نفوس بعض أُولَئِكَ الذين ناداهم
باسم الإيمان، وكأنه يقول: يا مؤمنون هل هذا من الإيمان؟.
ويأتي ختام هذه
السورة، مصرحا بالحقيقة التي بدأها، بل ومحددا لهذا المفهوم، ومستنكرا وضع الأمور
في غير مواضعها، وتسمية الأشياء بغير مسمياتها، (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ
لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ). ثم يحسم القضية حسما لا جدال بعده، ولا لبس فيه: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ). حصر وتأكيد، ثم إزالة لأي
لبس أو تشكيك (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). فهم الصَّادِقُونَ وحدهم.
أخي: أعد قراءة هذه السورة بتأن وتروّ وتدبر، وانظر
وكأنها نـزلت هذا اليوم، تعالج قضايانا، وتعايشنا في شئوننا وشجوننا، وتهدي أمتنا
الحائرة، وتعيدها إلى رشدها وسبيل نجاتها.
هذا وقد قلت ما قرأتم، فإن صوابًا فمن الله، وإن
خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، إنّه هو الغفور الرحيم. اللهم اجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً، وفي القيامة شفيعاً،
وعن النار ستراً وحجاباً، وإلى الجنة قائداً، وإلى الخير دليلاً وإماماً، برحمتك
يا أرحم الراحمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق