تعالوا لندخل إلى الكهف العاصم من الفتن:
أجلس رفقتكم الليلة على مائدة فيها إرهافٌ للوجدان، وإيقاظٌ
للشعور، وشفاءٌ للنفوس، وغذاءٌ للأرواح.
نجلس مع تلاوة عطرة ندية مؤثرة، بصوت تشع منه نفحات
التخشع.
نجلس مع الشيخ
الفاضل: خالد الجليل، إمام وخطيب جامع الملك خالد بأم الحمام، وهو يتلو على مسامعنا سورة الكهف برواية حفص عن عاصم.
ولكن قبل ذلك فلا بد من كلام بين يدي السورة:
أقول
وبالله أستعين: هذه السورة جاء في فضل قراءة هذه السورة يوم الجمعة أو ليلتها أحاديث صحيحة
عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1ـ روى مسلم وأبو داوود عن
أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من حفظ عشر
آيات من أول الكهف"، وفي رواية لمسلم: "من آخر الكهف، عُصم فتنة
الدجال". ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ: "من قرأ ثلاث آيات من أول
الكهف عصم من فتنة الدجال". قال الترمذي حديث حسن صحيح.
2 ـ
عن أبي سعيد الخدري قال: " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور
فيما بينه وبين البيت العتيق". رواه الدارمي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح
الجامع.
3 ـ وقال
صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما
بين الجمعتين". رواه
الحاكم والبيهقي. قال فيه ابن حجر في "تخريج
الأذكار": حديث حسن، وقال: وهو أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف.
4 ـ
روى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس قال: "نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون
ألفا من الملائكة". وقد أغفل هذا صاحب الإتقان.
وسورة الكهف مكية. عدا
الآية 38 ، ومن الآية 86 إلى 151 فمدنية، وهي من المئين، عدد آياتها عند قراء البصرة مائة وإحدى عشرة ، وفي عدّ قراء الكوفة مائة
وعشرا ، بناء على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين ، ترتيبها
الثامنة عشرة في المصحف، أما في ترتيب النزول فهي الثامنة والستون عند جابر بن زيد ، نزلت
بعد سورة "الغاشية". هي إحدى خمس سور بدأت بجملة "الحمد لله"، بالإضافة إلى الفاتحة والأنعام وسبأ وفاطر.
فيها قصص أربع،
يربطها محور واحد، وهو أنها تجمع الفتن الأربعة في الحياة:
1 ـ فتنة الدين: قصة أهل الكهف
2 ـ فتنة المال: صاحب الجنتين
3 ـ فتنة العلم: موسى عليه
السلام والخضر
4 ـ فتنة السلطة: ذو القرنين
وهذه الفتن شديدة على الناس والمحرك الرئيسي لها هو الشيطان
الذي يزيّن هذه الفتن، ولذا جاءت الآية: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) آية 50 من السورة ذاتها.
ولذا قال الرسول
صلى الله عليه وسلم أنه من قرأها عصمه الله تعالى من فتنة المسيح الدجّال، لأنه
سيأتي بهذه الفتن الأربعة ليفتن الناس بها. وقد جاء في الحديث الشريف: "من
خلق آدم حتى قيام الساعة، ما فتنة أشدّ من فتنة المسيح الدجال" وكان يستعيذ
في صلاته من أربع، منها فتنة المسيح الدجال.
ويأتي ختام السورة بآية خطيرة، ما زلت محتاراً بها، وهي قول
الله “قل هل ننبئُكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً”.
وكأنها ملخّص السورة، أو هي النتيجة الختامية لها:
أي: احذر أيها الإنسان
من أم الفتن، وهي أنْ تَظنّ أنك تحسن صنيعاً وأنت في ضلال مبين، حتى ولو كنت
مؤمناً.. أو تظن أنك على ذلك! فالحل إذاً أن تراجع معتقداتك وأفكارك باستمرار،
وتجتهد فيما آتاك الله من عقل بحسن النظر والفكر والتمحيص، والحق ليس بمعجز، فالله
"لم يمتحنّا بما تعيا العقول به". كما قال
البوصيري رحمه الله.
ألا وأخيرا تأمل معي براعة اختتام السورة: "فمن كان
يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا".
أي أن ذاك الذي جمع بين المتابعة والإخلاص، هو الذي ينال ما
يرجو ويطلب. وأما من عدا ذلك فإنه خاسر في دنياه وأخراه، فقد فاته القرب من مولاه
ونيل رضاه، لأنه تأخر عن دخول كهف النجاة..
فاستمعوا وأنصتوا ـ يرحمني وإياكم الله ـ ولكم أزجي جزيل شكري وأصدق دعواتي ممزوجة بالاعتذار فيما تركتكم
فيه من انتظار، وأسأل الله تعالى أن يجعل
هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده، والحمد لله رب
العالمين..