الجمعة، 3 يناير 2014

موضوع الخطبة: لا للفساد الإداري والمالي






الخطبة الأولى

    الحمد لله، العلي العظيم، الجواد الكريم، أحمدُه سبحانه على سوابِغ نعمه، وأشكرُه على ما صرف من أسباب سخطه ونِقَمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توحيد يأتي صاحبها آمنا يوم القيامة، ويُحِلُّه بها ربّه دار الكرامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، علمه ربّه ما لم يكن يعلم، وجعل أمَّته خير الأمم، صلى الله عليه وبارك وسلم، وعلى آله الطيبين الطاهرين نالوا بهذا الدين عزا وسلطانا، وعلى أصحابه الغرّ الميامين كانوا على الحق والخير إخوانا وأعوانا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ممن إذا ذُكِّروا بآيات ربهم زادتهم إيمانا، ولم يخِرُّوا عليها صما وعميانا، وسلم تسليما كثيرا.
   أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتلك وصية ربكم لكم حيث قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ". آل عمران:102.
  عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟. فضرب بيده على منكبي، وقال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وأنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدي الذي عليه فيها". وقال صلى الله عيه وسلم في حديث آخر: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة".
    أيها المسلمون: إن من أعظم الأمانات، أمانة الأموال العامة التي تعود للمسلمين، والتي يجب أن يحافظ عليها الإنسان أشدّ مِن المحافظة على ماله الخاص، قال صلى الله عليه وسلم: "مَن عَمِل منكم على عَمَل فكتم مَخيطا فما فوقه، فهو غلٌّ يأتي به يوم القيامة".
    أيها السادة الكرام: إن الفساد الإداري والمالي قد ضرب أطنابه في أكثر بلاد المسلمين، وأدّى بهم إلى ما ترون من التخلف والانحطاط، والفقر والحاجة، وضعف الديانة وفساد الأخلاق؛ حتى إن عفيف اليد في بعض المجتمعات أصبح غريبا بين أقرانه، ولربما حورب ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإليه المشتكى..
   نعم.. ما بال كثير ممّن تحملوا المسؤولية وليسوا لها بأهل، غرّهم حسن المنصب، أو كرم الجاه، ولم يستشعروا عظيم المسؤولية وكبير الأثر، وكأني بهم لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
  فيا هؤلاء.. يا مَن تحمَّلتم مسؤوليات المسلمين من الوظائف والأعمال، لقد استرعاكم ربكم عز وجل، ثم أولياء الأمور بمسئولياتٍ جسام، فاتقوا الله فيها وفي رعايتها والقيام بما يرضي الله، ثم بما يرضي من ولاكم إياها.
     احذروا العبث بالمال العام، والتحايل على سرقته وتبديده، واستغلال المناصب للسطو عليه.
      فلا تجعل يدك ـ يا هذا ـ تمتد إلى شيء من هذا المال تحقيقًا لمنفعة شخصية أيّا كان نوعها، وإلا كان غلولاً يأتي به صاحبه يوم القيامة، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مَخيطا فما فوقه، كان غُلولاً يأتي به يوم القيامة". وقال رب العزة في كتابه: "وَمَن يَغْلُل يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظْلَمُونَ". آل عمران:161.
 واحذروا المحسوبية في الوظائف والأعمال، وتقريب القريب نسباً أو بلداً، بغضّ النظر عن كفاءته وأمانته وصلاحيته للعمل. فإن من فعل ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أمَانَاتِكُمْ وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ".
   وتجنبوا الرشوة ولو سمّيت هدية أو مكافأة أو غير ذلك، فإنها هي سبب فساد الأخلاق وانحطاط الهمم وسفول الأمم، إن الرشوة لا يرضاها كسبا له إلا من ضعُفت نفسه، ورقّ دينه، ولا يتخلّقها إلا من ذهبت أمانته، وظهرت خيانته..
    إياكم أن تَضطرّوا عباد الله لما لا يُحمَد شرعًا، ولا يُرتَضَى طبعًا، من كثرة التَّرداد والإلحاح والإستجداء، أو التنازل عن العزة والكرامة، أو دفع الرشاوى المحرمة، فتبوؤوا بالإثم والغضب من الله جلا وعلا. جاء عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منَعوا الحقَّ حتى اشتُرِي، وبَسَطوا الجورَ حتى افتُدِي".
  واحذروا تعطيل مصالح الناس وعدم قضاء حاجاتهم وغلق الأبواب دونهم، مرة بحجة اجتماع، ومرة بحجة الانشغال وكثرة الأعمال، ومرة بحجة كذا وكذا. فعند أبي داود رحمه الله حديثٌ يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "من ولَّاه اللَّه عزّ وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفقرهم، احتجب اللَّه عنه دون حاجته وخلّته وفقره". وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "ما من عبد أنعم الله عليه نعمة وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم، فقد عرَّض تلك النعمة للزوال".
   وأخيرا إياكم.. ثم إياكم وتسخيرَ هذه المسئوليات في مصالحَ خاصةٍ، أو منافعَ ذاتيةٍ، واحذروا من التهاون في مقاصد هذه المسئوليات وأهدافها، فإن كل انحراف بالوظيفة العامّة أو الخاصّة عن مسارِها الذي وُضِعَت له ووُجِدت لخدمته فهو فسادٌ وجريمةٌ وخِيانةٌ.
    أيها المسلمون: إن الله جلّ في علاه، ربط حالة الفساد التي تنتشر في أي مجتمع بكسب الناس أنفسهم، وطريقة تعاملهم مع الوقائع والأحداث، وبمدى تقواهم والتزامهم بأوامر الله تعالى، في حين يعاجلهم العقاب بظهور الفساد وما يترتب عليه من شرّ وفتنة في الدنيا، لعلهم يعودون إلى ربهم ويلتزمون بأمره ونهيه، قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".
   وإذا كان الأمر ذلك كذلك؛ فلا بدّ على الجميع من محاربة الفساد ومكافحته، والتزام الصلاح والإصلاح والنزاهة والشفافية، وذلك هو المفتاح القائد - بإذن الله - لأسباب الخير والفلاح، والتوفيق والصلاح، والأمن والطمأنينة، وانتشار العدالة.
     وإننا إذ نشكر رئيس الجمهورية –حفظه الله-  على إنشاء هيئة قانونية للوقاية من الفساد، (القانون رقم 06/01 المؤرخ في 20 فيفري 2006 والمتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته)، وإن كنا نعلم أن أمام هذه الهيئة طريق طويل طويل، لمواجهة هذا الفساد الإداري ومحاربته حفاظاً على أمن المجتمع واستقراره الاجتماعي ومكتسباته ومُدَّخراته.
    إلا أني وأنتم ـ أيضا ـ تعلمون أن الشعور الداخلي بجمال الصالح وقبح الفساد، بحيث تَنفِر النفس من الشيء الفاسد، وتُسَرّ بالشيء الصالح، إن هذا الأمرٌ لا يحدث إلا بالمعرفة الصحيحة بما جاء به الدين، هذه المعرفة التي تتحوّل من فكرة إلى شعور، ومن علم إلى تذوق، فيستطيع الإنسان أن يفرق بين الصالح والفاسد، والخير والشرّ، والنافع والضارّ، والمباح والممنوع، بحيث يصبح مؤمنا يستفتي قلبه وإن أفتاه أهل الفتوى، وإن غفل القانون، وإن غاب المراقبون..
    نعم.. لقدأصدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قانونا يمنع غشّ اللبن، وذلك بخلطه بالماء، ولكن هل تستطيع عين القانون أن ترى كلّ مخالف، وهل تستطيع يده أن تقبض على كلّ غاشّ.
    إنه الإيمان هو الذي يعمل عمله في هذا المجال. ها هي الأمّ تقول لابنتها: "قومي إلى اللبن فامذُقيه"، (اخلطيه بالماء). وها هي البنت تذكّر أمّها بأن أمير المؤمنين منع هذا. فتقول الأم: "أين نحن من أمير المؤمنين، إنه لا يرانا؟. وتردّ الإبنة بالجواب المفحم: "إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فربّ أمير المؤمنين يرانا"!
    هذه هي أخلاق المجتمع المسلم في محاربة الفساد، فالأخلاق التي لا يرعاها ضمير مؤمن، فهي على حدّ قول الشاعر:
كمثل الطّبل يسمع من بعيد * وباطنه من الخيرات خال
   ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسؤولون- وراقبوه في وظائفكم ومكاتبكم؛ فإنه مطلع على سركم وعلانيتكم، ومحاسبكم على أعمالكم، "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ". الحاقَّة:18.
   فأعدوا لما ستسألون عنه جوابا.. واعلموا أنه إن ضاع حق في الدنيا، فلن يضيع عند الله تعالى، وستجتمع الخصوم يوم القيامة على حكمه سبحانه، وهو خير الحاكمين.
     أسأل الله سبحانه وتعالى أن تصل هذه الرسالة إلى كل من وضع في عنقه أمانة، وأن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

     الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: "وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ". أحمده حمدا يليق بكريم وجهه وبعظيم سلطانه، "فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
    أما بعد، فيا أيها المسؤولون: في آخر خطبتي أريدكم أن تستمعوا لتطبيق السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين لمبدأ الورع عن المال العام.
    فهذا أمير المؤمنين عمر  بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لما كان في المدينة يحكم المسلمين خليفة، أرسل إليه معاوية رضي الله تعالى عنه بزيت في قِرَب، ليوضع في بيت مال المسلمين، فلما جيء إليه بهذا الزيت قال عمر إن وضعتُه في بيت مال المسلمين فَسَدَ، فأراد أن يبيعه، وان يجعل المال في بيت مال المسلمين، فقال للناس: من أراد أن يشتري من هذا الزيت فليأت إلينا بإنائه.
   فجعل الناس يأتون إليه بالآنية، وهو رضي الله تعالى عنه بنفسه يحلّ فم السّقاء، ثم يصب لهم من الزيت ويأخذ منهم المال ليحفظه لبيت مال المسلمين، فكان بجانب عمر ولد له صغير، فكلما انتهت قِربة قلَبها عمر وعَصَرها، حتى إذا ظن أنها فرغت ألقاها بجانبه، وكان ابنه الصغير بجانبه كلما ألقى أبوه قربة أخذها وعالجها وأدخل إصبعه في فمها، وجعل يتلمّس شيئا من الزيت الباقي فيها حتى يلتصق في يده، ثم يفرك إحدى يديه بالأخرى ويمسح وجهه وشعره، ففعل الصغير ذلك بثلاث أو أربع قِرب.
   فالتفت عمر فجأة إليه، فإذا وجهه حسن، وإذا شعره حسن، يلمع نظيفا، فقال عمر له: ادَّهَنْتَ؟. قال: نعم، ادَّهَنْتُ. قال: مِن أين؟ قال: مما يتبقى في هذه القرب. فقال له أبوه: آه.. أن كنت ابن أمير المؤمنين تدهن بلا عوض؛ لأنك ابن الأمير تدهن مجانا، وغيرك يدفع أموالا؟! أن كنت ابن أمير المؤمنين تدهن بلا عوض؟ والله لا يحاسبني الله على هذا! والله ما يؤدّبك إلا الحلاق!..  ثم أمر به فحلق شعره.. الله أكبر..
      وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله، جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين، وكان الوقت ليلاً وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله، قال له عمر: انتظر. فأطفأ الشمعة وقال له: الآن اسأل ما بدا لك؟. فتعجب الوالي، وقال: يا أمير المؤمنين لم أطفأت الشمعة؟ فقال عمر: كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم، وأما الآن فتسألني عن حالي، فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟.
      وجاؤوا له يوما بمِسك، فلما بدأ بتقسيمه وضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته -ورعاً عن المال العام- فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يُستفاد منه إلا برائحته؟ الله أكبر!
   فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة فأخذ ينهب منها بغير حساب؟.
    إنه ـ أيها المسؤولون ـ الحفاظ على المال العام، إنه الحرص على أموال الدولة، إنه الحرص على المال الذي يشاركك فيه الفقير والمسكين، والضعيف واليتيم والأرملة، إنه الأمر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: "أحرّج حق الضعيفين: الأرملة والمسكين".
    أيها المسلمون: والقصص في هذا المجال كثيرة، فارجعوا إلى سيرة السلف الصالح ففيها الكثير الكثير. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ". إبراهيم:42..
    اللهم إنا نسألك أن تصلح قلوبنا، وتزكي أعمالنا، وترزقنا الصدق والأمانة، وتطهرنا من الكذب والخيانة،  اللهم وهيئ للمسلمين مسؤولين صالحين لخدمتهم وإعطائهم حقوقهم، محافظين عليهم وعلى أموالهم؛ اللهم ولّ علينا خيارنا، واكفنا شرّ شرارنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق