الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أكرمنا برمضان، وجعله موسمًا
للرحمة والعفو والغفران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيمُ
الرحمن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ ولد عدنان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك
عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقوى والإيمان.
أما بعد، فيا عباد الله: أُوصيكم ونفسي بتقوى
الله -جل وعلا-، فمن اتقاه وقاه وأسعده ولا أشقاه، ورمضان ـ أيها المسلمون ـ من أعظم مواسم التقوى،
والصيام مسلك من مسالكها؛ لذا أخبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- أن الصيام جُنَّةٌ، أي: وقاية يقي أصحابه الفحش والمحرمات، وقد علّل
الله الصيام بالتقوى، حيث قال سبحانه:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". البقرة:183.
فمن
أجَلِّ حِكَمِ الصيام: الحصولُ على التقوى، ولكن هل فهم المسلمون هذا المعنى من
الصيام؟!.
قال
الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: "لعلكم تتقون المعاصي بسبب
هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة، وتضعف
دواعي المعاصي"، وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: "إِنَّ الصِّيَامَ جُنَّةٌ
يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ".
وقال
الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، أي تتركوا
معصية الله بهذا الصيام.
ومعنى ذلك أنكم بالصيام تتقون
المعاصي وتبتعدون عن الشهوات، وقيل: هو على العموم، لأن الصيـام وكما ورد: جُنة ووِجاء وسببُ تقوى. جُنة
يتقى بها الصائم عن المآثم والسيئات والمهلكات المؤدية إلى النار، كما يتقي
المحارب بالجُنّة حين القتال..
فليس حقيقة الصيام أن يُترك الطعامُ، وليس
الصيام أن يُترك الشرابُ، هذا من الصيام، لكن حقيقة الصيام أن يترك الإنسان ما حرم
الله عليه، حقيقته أن ينقاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيترك ما حرم النبي -صلى
الله عليه وسلم- عليه.
وهذا المعنى -أيها المباركون- أكد عليه النبي
-صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة، ففي صحيح البخاري قال نبينا -صلى الله عليه
وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل..."،
ذكر ثلاثة أشياء "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
أما قول الزور: فكل منكر يكتسبه الإنسان
بلسانه، الكذب من قول الزور، الغيبة من قول الزور، النميمة من قول الزور، أن تُسمع
أخاك كلمة تجرحه، تسيء إليه من قول الزور.
أما العمل بالزور، فالعمل بالباطل؛ فكل من ارتكب حرامًا أو إثمًا
أو ولج إلى باب معصية، فقد وقع في عمل الزور الذي حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم-
علينا.
قال: "والجهل"، الجهل: الطيش،
والجهل السفه، والجهل أن يتصرف المسلم تصرفات غير مسئولة، هذا الذي يتكلم في
الحرام ويقع في معصية الله ويتقحّم المنكرات ويطيش بتصرفاته، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
نعم..
فالصوم إنما شُرع ليزكي النفس، ويطهِّر
الأخلاق، ويعدّ العبد في مستقبل أمره إلى عمل صالح، واستقامة على الهدى، فكما تغلب
المسلم على ترك مشتهيات النفس المباحة له، تركها لأن الله يريد منه تركها، فإن هذا
وسيلة إلى أن يترك المحرمات التي حرمها الله عليه في الصوم وغيره.
وبالاستمرار في الصيام لمدة شهر كامل يكون
الانسان قد تعود على السلوك الحسن والخصال الحميدة، ومن غير توجيه من أحد، ويقوي
في الإنسان الإرادة العزيمة في التغلب عل كل مصاعب الحياة.
فالصوم وسيلة لغاية عظمى هي تحقيق التقوى في قلب المسلم، فكن -أخي-
حريصاً على صيانة صيامك، وحِفْظه من كل ما يُنقصه ويقلل ثوابه، اسمع نبيك -صلى
الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ لَمْ
يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في
ترك طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"..
ألا وإن من علامات الإخفاق التي نراها هنا
وهناك، ما يظهر من مشاكسات، وتشنج أعصاب ونزعات، وسب وبذاءة لسان، في عمليات البيع
والشراء وفي تعامل الزوج مع زوجته، وفي الشارع مع أصحاب السيارات، وفي علاقة
الإداري بالمواطن..
أقول: إن ما يظهر من تلك التصرفات تعبير عن
عدم الاستعداد لتحمل المواقف الذاتية، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال الله عز وجل: "الصيام جنةـ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفت
ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم".
فلقد
بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصائم لا يجاري أمثال هؤلاء السفهاء، قال: "فليقل: إِنِّي صَائِمٌ"، ينبغي أن يجهر بها لحكم ثلاثة:
الحكمة الأولى: حتى يذكّر نفسه بهذه العبادة
التي تلبّس بها، والحكمة الثانية: حتى يذكر غيره إنما كف عنه ليس عجزًا، وليس خوفًا،
بل لأنه من الصائمين، الحكمة الثالثة: من أجل أن يذكر الناس حوله بأن الصائم لا
ينبغي أن يُستجرَّ وراء مثل هذه الخصومات ولا مثل هذه الأفعال التي نهى عنها النبي
صلى الله عليه وسلم..
إذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي
تَصَامُمٌ * وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فَحَظِّي إِذَاً مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ والظَّمَا * وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمَاً فَمَا صُمْتُ
فَحَظِّي إِذَاً مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ والظَّمَا * وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمَاً فَمَا صُمْتُ
فيا أيُّها المسلم: اعلم أن الصوم إنما جاء
لتهذيب الأخلاق، وتعديل السلوك، جاء لينظم حياة المسلم، جاء ليقوي صلة المسلم
بربه، وليكون العبد دائما على صلة بربه بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
فليس كل من كفّ عن الشهوتين بصائم، ويطمع في جزاء الصائمين حتى يضيف إلى ذلك صوم
الجوارح والمشاعر، فللعين صيام، وللسمع صيام، وللسان صيام، ولكل جارحة في العبد
صيام.. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك
عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".
أيها المؤمنون: الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ
إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات
تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن
رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير
زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
فهل حقق معنى الصيام من خلا بطنه من الطعام
والشراب وامتلأ بأكل المال الحرام؟
وهل صام فعلاً من أمسك عن المفطرات وأطلق
لسانه وسمعه في الحرام؟
وهل صام رمضان مَن تعدى على الآخرين في
أعراضهم أو أموالهم أو أجسادهم أو شارك في ذلك؟
وهل صام حقاً من أمسك عن الغذاء وقلبه وفكره
مليئان بالأحقاد والدسائس على المسلمين وقضاياهم؟.
ألا فتذكروا رحمني الله وإياكم قول الرسول الكريم
-صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لم يدَعْ قول الزور والعمل به والجهل
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
فَحَرِيٌّ بالمسلم أن يبدأ بتدريب نفسه
عملياً على الاستفادة من هذا الشهر، وأن يعتقد بأنها فرصة سنوية لبقية شهور العام،
وأن من حِكَم مشروعية الصيام الوصول للتقوى، وكفى بها من فائدة. فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي
عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين. فالحذر.. الحذر، فقد جاء في
الحديث: "رُبَّ
صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ
مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ".
نسأل الله تعالى القدير الجواد الكريم العفو
الرؤوف الحليم أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن لا يردنا محرومين ولا
خائبين ولا منكسرين إنه جواد رحيم
..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، اللهم إنا نشهد انك الله، لا إله إلا انت، لك
الحمد كما أنت أهله، وصلّ اللهم على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه كما هو أهله، وافعل بنا ما أنت أهله، فأنك أهل التقوى وأهل
المغفرة..
أما بعد، أيها المسلمون: روى الإمام البخاري رحمه الله، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله: "كلُّ عملِ ابنِ آدم
يُضاعَف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلاّ الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزِي به، يدَع
طعامه وشرابَه لأجلِي، للصائم فَرحتان: فرحة عند فِطره، وفرحة يوم لقاءِ ربّه،
والصوم جنّة، فإذا كان صَومُ أحدِكم فلا يرفَث ولا يصخَب، وإن أحدٌ سابَّه أو
قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائِم، والذي نفسِي بيدِه لَخَلوف فمِ الصائم أطيَبُ عند
الله من ريحِ المِسك".
انظُر ـ أيها المسلم ـ كيف استوجبَ الصومُ تشريفَهُ
بِنِسْبَتِهِ إلى الله،ِ مَع أنّ كلّ العبادات لله سبحانه، وانظُر كيفَ أنّ أجره بدون حساب لا كالأعمال الأخرى تضاعفُ إلى سبعمائة ضعف. وانظُر كيف وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
بأنّهُ محضُ تركٍ لأجل الله جلّ وعلاَ. وانظُر كيفَ يترُكُ صاحبُهُ الرفثَ
والمقاتلة والسبَّ والصَّخب، لأنَّهُ امرؤٌ صائم.
جميعُ هذه المعاني شرّفَ اللهُ بها عبادة الصيام؛
لأنَّها عبادةٌ تَركيَّةٌ في الأساس، لا
فعلَ فيها يُرى، وهي تُربّي النفسَ الإنسانيّة على أن تدعَ لوجه الله جلّ وعلاَ،
وهذا هو المقصودُ الأعظم.
فيا أيها الصائم: إذا لم يحمِلكَ صومُكَ على
تركِ الخنا والكذبِ وقولِ الزورِ والعملِ الزورِ -وهي محرّماتٌ بيقين-؛ فكيف
طاوعتكَ نفسُك في الحقيقةِ على تركِ الحلالِ لوجه الله جلّ وعلاَ؟.. لا شكّ أنَّ تركَ الأوّل أولى وأعلَى..
والعاقل
الفطن لا يفكر في وقت الإفطار ولا في يوم العيد؛ بقدر تفكيره واهتمامه بقبول الله
تعالى لعمله، إذ إن مصيبة المصائب أن تصوم ثم يرد عليك صيامك، وأن تصلي فلا تقبل
صلاتك، وهذه والله مصيبة المصائب، قال علي ـ رضي الله عنه ـ قال : "كونوا
لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إنما يتقبل
الله من المتقين)".
فاللهم
اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك
طريقا وسلما، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم تقبل منا الصيام والقيام،
واحشرنا في زمرة خير الآنام، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت
وليها ومولاها، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، اللهم
واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا إلى ما
تحب وترضى وسائر المسلمين يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق