الجمعة، 11 يوليو 2014

موضوع الخطبة: رمضان.. ولكن غزة تقصف



الخطبة الأولى

    الحمد لله الذي عم برحمته جميع العباد، وخص أهل طاعته بالهداية إلى سبيل الرشاد، ووفقهم بلطفه لبلوغ شهر رمضان، ففازوا ببلوغ المراد، أحمد حمد معترف بجزيل الإرفاد، وأعوذ به من وبيل الطرد والإبعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ادخرها ليوم المعاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أبان طريق الهدى والسداد، وقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأجواد ، صلاة وسلاماً نبلغ  بها الأمل والمراد..
    أما بعد: فأُوصِيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، لاسيَّما ونحن نعيشُ موسِمًا من أجلِّ مواسِم التقوى، فجوهرُ الصيام وفحواه، ولُبُّه ومغزاه: تحقيقُ تقوى الإله ـ جلَّ في عُلاه ـ يقول - سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". البقرة: 183
فيا أيها الإنسان بادِر إلى التُّقَى * وسارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُمهَلُ
فما أحسنَ التقوى وأهدَى سبيلَها* بها يرفعُ الإنسانُ ما كان يعملُ
    أيها المسلمون الصائمون: ها أنتم تعيشون هذه الأيام المباركة من أيام شهر رمضان، في خير وصحة وأمن وسؤدد، فاحمدوا الله الذي بلغكم وفي أعماركم أمدُد.
      شهر رمضان شهر كريم، وموسم عظيم، يحمل خيراتٍ كبيرة، وبركات كثيرة، ونعم وفيرة، فيه مضاعفة للحسنات، وتكفير للسيئات، وإقالة للعثرات، مخصوصٌ بأسمى الصفات، وأزكى الدرجات، إنه شهر رمضان، شهر الهبات والأعطيات، شهر الانتصارات والفتوحات.
      ألا وإن بلوغ هذا الشهر نعمة عظمى، وإدراكه منة كبرى، تستوجب الشكر، وتقتضي اغتنام الفرص، بما يكون سبباً للفوز بدار القرار والنجاة من النار، يقول الله العزيز الغفار: "يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
     أيها المؤمنون: وبرؤيةٍ مقاصديَّة في تنزيل مقاصِد الشريعة على أحكام الصيام وحِكَمه، يُدرِك المُكلَّفون أن الصيام إنما شُرِع لمقاصِد عُظمى وأحكامٍ جُلَّى، بها يُجدِّد المُسلمُ شِيَمَه التعبُّديَّة المحمودة، ويُعاوِدُ انبِعاثتَه في الخير المعهودة، فيترقَّى في درجات الإيمان، وينعمُ بصفات أهل البرِّ والإحسان؛ حيث لم يقِف الشارعُ الحكيمُ عند مظاهر الصوم وصُوره؛ من تحريم تناوُل المُباحات والطيبات فحسب؛ بل عمِدَ إلى سمُوِّ الروح، ورُقِيِّ النفس وحفظِها، وتكيةِ الجوارِح والصعود بها من الدَّرَكِ الماديِّ إلى آفاق السمُوِّ الروحيِّ، والعلوِّ الإيمانيِّ والقِيَميِّ.
    وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة، ويوحِّد الصفوف ويؤلِّف، يَفطِر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين ودعوة إلى تآخيهم وتوادهم وشيوع المحبة بينهم، "إنما المؤمنون إخوة". "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
   لقد روى البخاري رحمه الله، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
    تأملوا معي أيها المسلمون: قوله: "أجود بالخير من الريح المرسلة"، الريح المرسلة، المعنى: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة، وعبر بالمرسلة: إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة, وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه..  
   نعم - أيُّها الإخوة - لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلم ما رمضان، وما فضل العمل فيه، ومِن هنا، فقد كان يضاعف فيه جوده، هذا وهو محمدٌ رسول الله، أفضل خَلْق الله، وأتقى عباد الله، مَن غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِنَ الذُّنوب، وما تَأَخَّر، ومع ذلك يضاعف الجود في رمضان، ويسارع إلى الخير، ويغتنم فضيلة الوقت، وشرف الزَّمان..

    فالإضاءة المشرقة في هذا الحديث الشريف: الحثّ على الجود في كل وقت وخاصة في هذا الشهر المبارك شهر رمضان..
     وكذلك كان هدي سلف الأمة رضوان الله عليهم فقد كان كثير منهم يواسون من إفطارهم، ويؤثرون ويطوون.
    فقد كان ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه: يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم، لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءهُ وهو على الطعام، أخذ نصيبهُ من الطعام، وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا.
   واشتهى بعض الصالحين طعامًا، وكان صائمًا فوُضع بين يديه وهو صائمٌ، فسمع قائلاً يقول: من يقرضُ المليء الوفيَّ؟ فقال: عبده المعدمُ من الحسنات، وأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويًا.
   وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد: فدفع إليه رغيفين كان يعدُّهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائمًا. وكان الحسن يُطعمُ إخوانه وهو صائمٌ، ويجلسُ يروِّحُهمُ، وهمُ يأكلون.
   أيها المسلمون: إن في الصيام مظهر تسوية بين الغني والفقير، ويقضة للضمير الإنساني الأخوي بما يقاسيه أنضاء الحرمان وتعساء الإنسانية من عنت وبؤس وشقاء في هذه الحياة.
   دخل على بشر الحافي أحد أصدقائه في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب، فقال له: يا أبا نصر، إن الناس ليزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تتعرى؟.
    فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه، ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أشاركهم في مقاسات البرد..
     إن يقضة الضمير هذه ـ عباد الله ـ هي التي يريد أن يحييها الصيام فينا لو كنتم تعقلون،  فشدّوا العزائم، وتنافسوا في الخيرات، واحمدوا الله أن يلغكم هذا الشهر، فكم من مؤمل ذلك خانه الأمل، فأضحى بين القبور.
  نفعني الله وإياكم بما قلت، وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد ان لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم..
     أما بعد، أمة الإسلام .. أمة الصيام والقيام: وها هي نعم الله جل وعلا علينا تتابع، وإحسانه لنا يكثر حيناً بعد حين، وكل يوم نحن من نعمه في مزيد، فما تأتي نعمة إلا وتلحقها أخرى، موائدنا منصوبة، وجمعنا مشتمل في رمضان ولكن غزة تقصف..
    نعم أقول والأسَى ليعتصِرُ قلوبَ المُسلمين وهم يعيشُون أيام هذا الشهر الغُرِّ وليالِيَه المُبارَكة الزُّهر لما يجرِي في عددٍ من بلاد المُسلمين من سفكٍ للدماء، وصِراعاتٍ سياسية هنا وهناك، وما يجرِي في الأرض المُبارَكة فلسطين والأقصَى، وبالخصوص في غزة من الظلم والعُدوان، وترويع الآمِنين.
    نعم.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، على ما يحدث هذه الأيام من غزو مسلح على إخواننا في فلسطين، وخاصة في غزة، من تدمير لبلادهم، وسفك لدمائهم، وقبل ذلك وبعده، ما يحدث من حرب لدينهم وعقيدتهم.
   إن هذا لأمر تتصدع من هوله القلوب، وتنفطر منه الأفئدة الحية، وسط تخاذل مؤسف من أمة قوامها مليار، بل يزيدون.
    ها هي إسرائيل ترتكب جرائمها في وضح النهار، وتحت سمع العالم وبصره، لا تقيم وزنا لكل الشرائع والمواثيق والأعراف الدولية، حشدت قواها، وجمعت آلياتها، لم تراع شيخا كبيرا، ولا طفلا صغيرا..
نفسي تذوب أسى و القلب يجرحه * مما عدا ببــلاد الشام أرزاء
فأين مسرى رسول الله وقد وطـئت *به اليهود. فهل للحق أبناء؟
   ماذا أقول؟. وقد عاد سفّاحوا "صبرا وشاتيلا" إلى غزة متحدّين بذلك عزّة الإسلام، ومهينين لأكثر من مليار ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسل.
    تقرحت أكباد الصالحين كمدا مما يجري هناك، مناظر مفزعة متتوالية، وعربدة صهيونية غادرة، قتلٌ بطريقة وحشية، مسلسلاتٌ من الرّعب، مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في قلب كل مسلم، ملامح سطّرتها أشلاء الرجال بألوان الدم القاني وجماجم الشهداء.
قال الشاعر صالح علي العمري
وفي المحـيا سـؤال حـــائر قلـق * أين الفــداء وأين الحب في الديـــن؟
أين الرجــولة والأحــــداث دامـية * أين الفتـوح على أيـدي الميـامـــين؟
ألا نفــوس إلى العــليـاء نافـــــرة * تــواقـة لجنـــان الحـــور والعـــيـــن
يا غيرتي أين أنت؟ أين معــذرتي؟* ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزّة الإسلام من خلدي* مـا بالها لم تعـد تغـذ شراييــــني؟
     وبعد، أيها المسمون: وإن كنا نحن الجزائريين قد تنوقلت عنا مقولة: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". (الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله).
   فإنّي بلسانكم ولسان الجزائريين كلهم من الأجنة في بطون الأمهات، إلى الذين هم في الأجداث، وفي هذه الأيام الطيبات المباركات، أرفع الشكوى إلى الله، وأقول: اللهم إنّ هؤلاء الصهاينة أهلكوا الحرث والنسل، وأفسدوا في الأرض أيما إفساد، اللهم فشلّ أركانهم، ودمر كيانهم، واجعل الدائرة عليهم.
     نعم.. أيها المسلمون: إننا ولله الحمد نعيش منجاة من القتال وأهواله، والحروب وبلاياها، ومالنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا من يحارب إخواننا في الملة والدين. أولئك هم أهلنا في فلسطين، الذين يبتلون في سبيل الله، ويُبدون من الصبر والثبات والشجاعة ما هو جدير بأمثالهم.
   فلا يسعنا إلا أن نعلن عن تضامننا معهم، ونضم أصواتنا إلى أصواتهم، ونرفع احتجاجنا ضدّ أعدائهم، ونسأل الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم هيئ لإخواننا في فلسطين، وفي كل مكان، نصرا عزيزا  تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك.  ولا تجعل ـ اللهم ـ للكافرين على المؤمنين سبيلا، اللهم انصر إخواننا في فلسطين وأمددهم بقوة من عندك، الللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقوّ عزمهم، ووحّد صفّهم، واجعلهم في كفالتك يا رب العالمين.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق