الخميس، 26 ديسمبر 2013

موضوع الخطبة: بعد نزول الغيث




الخطبة الأولى
     إنَّ الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..  
    أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها المعتَصَم، ومنها الرِّبحُ والمغنَم، وبسبَبِها يدفع الله البلاءَ والمغرم، قال تعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ". الطلاق:2، 3، وقال أيضا: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا". الطلاق:4.
     فلنتق الله عز وجل ولنتبصر في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة حتى ننتهي إلى آخر سفرنا، وإن كل يوم يمر بنا، بل كل ساعة، بل كل لحظة تبعدنا من الدنيا وتقربنا من الآخرة، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالنا ومحفوظة لنا شاهدة علينا بما عملنا فيها من خير أو شر.
       عباد الله: إن مِنْ نِعَمِ اللهِ سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لهم فصولاً أربعة يتقلب فيها الزمان، على حرّ مصيف، ويبس خريف، وبرد شتاء، وحسن ربيع، تبعًا لحكمته البالغة ومشيئته النافذة وقدرته الباهرة، "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ". القمر:5. فأما المؤمن فيتذكر ويعتبر ويزداد إيمانًا إلى إيمانه.
     يأتي فصل الصيف بحرارته وشدته، فيتذكر حرّ النار وسموم جهنم، ويتذكر قوله تعالى: "قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا" التوبة:81، فيزداد يقينًا إلى يقينه، ويسارع إلى طاعة ربه وإلى مرضاة مولاه، وإلى أعمال صالحة مباعدة عن النار.
     ويأتي فصل الشتاء ببرده وقساوته فيتذكر زمهرير جهنم، ويعلم أنه في موسم من مواسم الإقبال على الله، فيتزوّد للقاء الله سبحانه وتعالى، كما قال أحد السلف: "الشتاء جنة المؤمن؛ طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه". هذا هو حال المؤمن، وأما الغافل فلا تذكّر ولا اعتبار، وإنما لهو ولعب وغفلة وبعد عن الله سبحانه وتعالى، حاله كحال القائل:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لِي متى؟.
    هكذا المعرض عن الله يبدّد حياته ويضيّع عمره في كل معصية ولهو، حتى يأتيه الأجل وهو على هذه الحالة، فيندم ولات حين مندَم، ويتمنى الرجوع إلى هذه الدنيا ليعمل، ولكن هيهات هيهات، قال تعالى: "وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ" سبأ:54،  وقال سبحانه: "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ". فاطر:37.
    أيها المسلمون: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعمة من نعم الله وافرة، فسماؤنا تمطر، وأشجارنا تثمر، وأرضنا تخضرّ، وما هذا إلا نعمة ورحمة من المنعم الرحمن المنان. فوالله، ثم والله، لولا الله ما سقينا، ولا تنعّمنا بما أوتينا. قال تعالى: "أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ". الواقعة:68-70، أجاج أي: شديد الملوحة.   
    فكيف لا نشكر الله؟. وقد كنا بالأمس القريب فقط نشكو الجدب والقحط وقلة المياه، فنزلت رحمة الله الواسعة، فرويت الأرض، وجرت الوديان، وامتلأت الآبار، وسالت العيون، وفاضت السدود برحمة من الله وفضله.
   ألا إن رحمة الله بنا عظيمة، ونعمه علينا كثيرة، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، وأن ننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضل الله ورحمته. جاء في صحيح البخاري ومسلم عن زيد الجهني أنه قال: صلى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت بليل، أي: بعد ليلة ممطرة، فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا أو كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" .
    فاللهم لك الحمد والشكر.. إننا في نعمة لا تقدر بثمن، فنلبس ونغير في كل وقت وحين، ونقتني كل واقٍ يقينا من الأمطار وشدة البرد، فننام متلحفين، ونخرج إلى أعمالنا ومساجدنا مثل ذلك، ويعيش بعضنا وكأنه في وسط الصيف ليس ذلك إلا من نعمة الخالق سبحانه عزّ وجل. فلله الحمد والمنة، لله الشكر والحمد، وهذه ـ والله ـ نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، قال تعالى: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ".  النحل: 80، 81 . 
   اللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد أنت رب العالمين، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
       أيها المسلمون: إننا نعيش الآن في فصل الشتاء، نحُسُّ بنفثات برْدِه، نستنشق نسمات هوائه اللاذع، نتأمل في كيفية تدرج برودته على بني البشر، يجعلنا نتأمل ونتفكر، آيات تترا، وحكم لا تعد ولا تحصى، وما يشعر به الناس من شدة البرد باختلاف مناطقهم ومناخهم هو نفسٌ من أنفاس نار جهنم، ومصداق ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عندما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها}. [رواه البخاري ومسلم]. 
  وهذا التعاقب ـ عباد الله ـ ما بين الحر ارة والبرودة يذكِّر الإنسان في كل فترة من عامه، كيف أحواله مع ذهاب أيامه وأعوامه، وهو في غفلة عن الموت، قد انغمس في شهوات الدنيا وملذاتها.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة         وعيشك في الدنيا محال وباطل
   أيها المؤمنون: وممّا لا شك فيه أن الإنسان مجبول على طلب ما ينفعه، والبعد والتجافي عما يضره ويزعجه، وهذه فطرة بشرية، أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). (العاديات:8). فها نحن قد أخذنا بالاستعداد لتهيئة بيوتنا بالمدافئ والملابس الشتوية وأجود أنواع الفرش، لكن في الوقت نفسه فإن كثيرا من جيراننا وأقاربنا وإخواننا المسلمين مَن يجلسون جلستهم العائلية بلا مدافئ، وترتعد أجسادهم في جنح الليالي من شدة البرد، ويذهب أطفالهم إلى مدارسهم من غير الكساء الذي يلبسه أبناؤنا وإخواننا، فيخترق البرد عظامهم، وليس ذلك إلا من قلّة ذات اليد وقلّة المحسنين. ونحن المسلمين كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
    فإذا مرت عليك أيها المسلم ليلة شاتية وذقت فيها البرد القارص، ففررت إلى مكان دافئ، وغصت بين أحضان فراش وفير، اعلم حينها أن هناك من يشاركك الشعور بالبرد، ولكن لا يجد وسائل الدفء، هناك من يفترش الأرض ويلتحف السماء لا يجد له من دون الأرض مفرش، ولا يجد له من البرد غطاء. فالأموال متيسرة عند الكثير – والثياب والألبسة الزائدة عند الكثير منَّا – لكنها لم تلبس، ولم تنفق لمحتاج. بل هي أسيرة للمستودعات أو في سلّة المهملات. ووالله إن إخوانا لنا قد مزق البرد أوصالهم، وأسال دموعهم، وجمد جلودهم، وأذاقهم الحزن الأليم، وربما اجتمع مع ذلك فقد الأهل والوطن، وعدم المأوى والكساء، فيقول أحدهم:
أتـدري كيـف قابلنـي الشتاء * وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيـف البـرد يفعل بالثنايـا * إذا اصطكت وجاوبها الفضـاء
فـإن حل الشـتاء فأدفئونـي * فـإن الشـيخ آفتـه الشـتـاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي * يهــدده مـن الفقـر العنـاء
وكيـف يـداه ترتجفان بؤساً  * وتصدمـه المذلـة والشـقـاء
يصب الزمهريـر عليـه ثلجاً * فتجمد فـي الشـرايين الدمـاء

هـذا الآدمـي بغـيـر دار، فهل * يرضيك أن يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي * ولا أرض تـقيـه ولا سمـاء
معاذ الله أن ترضـى بهـذا * وطفـل الجيـل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عـوز وضـيق * ولا تحـنو؟ فما هذا الجفـاء
أخي بالله لا تجـرح شعوري * ألا يكفيـك مـا جـرح الشـتاء
     نعم أيها المؤمنون: إننا نعيش هذا البرد، ويعيش معنا إخوان لنا قُدِرْت عليهم أرزاقهم، وقصرت بهم النفقة، وهم بأمس الحاجة إلى العون والمساعدة في برد الشتاء، فقدموا لأنفسكم وتفقدوا إخوانكم المحتاجين، وابدؤوا بأقاربكم وذوي أرحامكم ثم جيرانكم وأهل بلدكم ثم الأقرب منكم فالأقرب، ولا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق النار ولو بشق تمرة).
     فاتقوا الله عباد الله، واذكروا في هذا الشتاء إخوانا لكم في الله، عضّهم الفقر، وأثقلت كواهلهم متاعب الحياة، واسوهم بالقليل من أموالكم، وأسعفوهم بالعيش الرخي، والثوب الرضي، وكونوا لهم عونا في الشدة، وعضدا في المحنة، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
    اللهم اجعل ما أنزلته صيبا نافعا، واجعله عطاء مشفوعاً برحمة، تصلح بها حالنا وتستقيم بها قوبنا، اللهم وبارك لنا في أسماعنا وأبصرنا وأزواجنا وذريتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقّه وجلّه، أولّه وآخره، سرّه وعلنه ،اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك أنت الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق