الخطبة الأولى
إن الحمد لله ...
أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بطاعة
الله، اتقوا الله واعرفوا نعمه عليكم، واعتزوا بدينكم. قال تعالى: "اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". الآية 3من سورة
المائدة.
أيها المسلمون: لقد أغنى الله المسلمين وأنعم
عليهم بشريعة كاملة لكل مصالح الدين والدنيا، وعلق السعادة في الدنيا والآخرة على
العمل بها، والتمسك بهديها. قال تعالى: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
يشقى". الآية123 سورة طه. وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن
تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيّه". رواه الإمام مالك في الموطإ.
فأحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد
صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور ما أحدث على غير هدي من الله، أوسنة سنها رسول
الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون
أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم
الظالمين". القصص:50.
فعليكم- معاشر المسلمين- بما كان عليه الصدر
الأول، ففي هديهم الرشاد وفي نهجهم الفلاح والسداد، وليس في اتباع طريقهم تأخر ولا
رجعية، بل من حاد عن مسلكهم تقاذفته الشبه والأهواء، وارتطم بالفتن وانزلق في
المهاوي.
عباد الله: ما كان لنا ـ وهذا كتاب ربنا وسنة
نبينا صلى الله عليه وسلم ـ أن نكون أتباعا لغيرنا، نقلدهم في عاداتهم، ونحاكيهم
في سلوكهم وأعيادهم!. فنحن أهدى الناس سبيلا، وأقومهم طريقا، يجب أن نكون متبوعين
لا تابعين، وقادة لا مقودين.
ولكن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
قال فيما رواه البخاري ومسلم: "لتتبعن سَنَن من قبلكم حذو القذّة بالقذّة،
حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟. قال
فمن؟". وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى
تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل يا رسول الله كفارس والروم؟.
قال: ومَنِ الناس إلا أولئك؟".
وهكذا وللأسف الشديد، إننا نرى فئاما من
الناس يتشبّهون بالكفار في لباسهم وسلوكهم وفي عاداتهم وأعيادهم، وربما تميل
نفوسهم إلى حبّهم والإعجاب بهم!.
عباد الله: إنكم تعلمون أنّ المسيحيين
يحتفلون في هذه الأيام بعيد رأس السنة وعيد ميلاد المسيح عليه السلام، وهما عيدان
يرتبطان بعقيدتهم الدينية، وإن كنا نحن المسلمين نؤمن بعيسى عليه الصلاة والسلام
رسولا من عند الله، فإن ذلك ليس من خصائصنا ولا من تاريخنا، لأن الأعياد إنما تكون
نابعة من دين الأمة أو من تاريخها أو أحداث
في حياتها.
فما بال هؤلاء بهذا يهتمون، وبأعياد الميلاد
يتفننون ويفرحون، ويظهرون الزينة ويستعدون لأحياء "ليلة الريفيون"،
وربما يُحضِرون إلى بيوتهم شجرة الميلاد المزعومة وقطعة الحلوى الخاصة بهذه المناسبة،
وربما يتحدّث الواحد منهم لأبنائه وبناته عن "بابا نويل" بفخر واعتزاز؟.
أما سمع هؤلاء ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: "من نشأ في بلاد الأعاجم فصنع نيروزهم
ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة".
إن هؤلاء يعملون ذلك تقديرا لغيرهم، وحبًّا في
الجري وراءهم، مندفعين بعامل خفيّ، يمكن أن يفسّره علماء النفس والإجتماع بعقدة
النقص، أو عقدة الإحساس بالضعف، ضعف الشخصية ومحاولة تكميلها بما يظنونه كمالا،
حين يتشبهون بالأقوياء.. حقا:
إذا أنت
لم تعرف لنفسك حقها .. هوانا بها كانت على الناس أهونا
أيها المسلمون: إن هذا هو الذي حدا برسول
الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو قائد الأمة ومربيها وموجههاـ أن يكمّل للأمة شخصيتها من هذه الناحية، فجعل
لها أعيادا خاصة بها، فعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وجد
المسلمين فيها كغيرهم وكسابق عهدهم قبل الإسلام يحتفلون بيومين في السنة، فلم يترك
أتباعه يحتفلون بهما كما كانوا في الماضي، بل قال لهما: "إن الله قد أبدلكم
بهما يومين خيرا منهما". فعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان"؟.
قالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر". قال
الحاكم في المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
لقد حرص ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يُلغِي
في مجتمعه الجديد الإحتفالَ بالأعياد القديمة، ولم يترك مجتمعه بدون أعياد، بل سدّ
الفراغ بعيدين جديدين يتصلان أوثق اتصال بحياة المسلم الروحية، وفرائضه التي يتقرب
بها إلى الله، وأباح المظاهر السارّة التي اعتاد الناس أن يستقبلوا بها أعيادهم.
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان من جواري
الأنصار تغنيّان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث ـ فقالت وليستا بمغنيتين ـ فقال
أبوبكر: "أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر
إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا".
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن لكم أعيادا دينية
ومواسم إسلامية وأحداثا تاريخية، وكلها جديرة أن تملأ بيوتكم أنسا وبهجة، وقلوبكم
سرورا وهناء، فتمسكوا بآدابها واعملوا على إحيائها، تفوزون بخيري الدنيا والآخرة. واعلموا
أنّ إهمال أيّ إنسان لخصائصه ومقوماته وأحداثه وتاريخه، وتقليده لغيره دليلٌ على
عدم شعوره بكيانه وشخصيته وقيمته في الحياة. وإن الذي يتهاون في الصغير يتهاون في
الكبير. وإن هذا أمر ليس بالهيّن ولا بالسهل. فلقد نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "عن الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس ونهى عن الصلاة بعد العصر حتى
تغرب الشمس". رواه مسلم في صحيحه. وعلّل ذلك بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان
وحينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر
الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أنّ الكفار يسجدون لها،
ومع ذلك فقد نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادّة المشابهة بكل طريق.
فيا عباد الله: ما صلتكم ـ دينيا واجتماعيا
وتاريخيا ـ بعيد ميلاد المسيح، حتى
تتفننوا في الإحتفال به؟.
قال
الشيخ أبو إسحاق التلمساني صاحب الفرائض رحمه الله :
دع
الأعاجـم تذهب في مواســـــمها مذاهب
اخترعتها شر مخـترع
إن الذي
يحــتذي في ذاك حذوهم مشارك لهم في الحادث
الشنع
إن
يقصدوا قصد ميلاد المسيح فـقد غلوا به
وأتوا للـكفر بالشـــــنـع
لنحــــــــن
أولى بـه لكن خــــــــلافهم رفء
لخرق متى تتركه يتــــسع
أليس يأتـــــــــــــون فيه كل منـــكرة ويعكفون على الأصنام في البيع
لا
تهــد فـــيها ولا تقــبل هدية مــــن يهـدي إليك وذر تخصيصها ودع
فيا أيها المسلمون: إن مشاركة هؤلاء في إحياء
مواسمهم وأعيادهم منكر يجب الإبتعاد عنه. قال الشيخ خليل رحمه الله: "ولعبٍ
بنيروز"، قال الدردير: "أي: ولا تصح شهادة شاهِدٍ لعِب في هذا اليوم ـ وهو
أول يوم من السنة عند النصارى، وسابع المسيح عليه وعلى نبينا السلام"ـ
وعلل ذلك بأنه من فعل الجاهلية والنصارى، وكذلك قاله الدسوقي رحمة الله عليه. وقال
صاحب عون المعبود بعد أن ذكر حديث: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا
منهما". قال المظهر: فيه دليل على أن تعظيم النيروز والمهرجان وغيرهما من
أعياد الكفار منهي عنه. قال أبو حفص الكبير الحنفي: من أهدى في النيروز بيضة إلى
مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى وحبط أعماله. وقال القاضي أبو المحاسن
الحسن بن منصور الحنفي: "من اشترى فيه شيئا لم يكن يشتريه في غيره أو أهدى فيه
هدية إلى غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر، وإن أراد
بالشراء التنعُم والتنزُه وبالإهداء التحابّ جريا على العادة لم يكن كفرا، لكنه
مكروه كراهة التشبيه بالكفرة، حينئذ فيحترز عنه. قاله علي القاري". انتهى
كلام صاحب عون المعبود. (الجزء الثالث صفحة88). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله في مجموع فتاويه: "ولا يحلّ فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان
به على ذلك من أجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا
إظهار الزينة". (ج:6 ص:111).
وعليه ـ أيها الكرام ـ إنه لا يحِلّ
لمسلم أن يُحييَ عيد رأس السنةِ، فليسَ عيدُ أهل الإسلام، وعلى تجارنا أن لا
يساهموا في مظاهر هذا الاحتفال، فيتشبهوا بالتجار من النصارى في نوع التجارة التي
يروجون هذه الأيام، وتزيين الدكاكين بالأضواءِ ونحوها.
فاتقوا
اللهَ في أنفسكم فألزموها بطاعةِ اللهِ، وأبعدوها عن معصيتهِ، وحُثوا أهلكم على الالتزام بأحكام الشرع، وساعدوهم على
ذلكَ، وازجروهمْ عن ارتكـاب المعاصي حتى لا تصيروا معهم إلى النار.
نفعني الله وإياكم بالقرآن
المبين، وبحديث نبيه الصادق الأمين.
الخطبة الثانية
الحمد
لله.
أما بعد، فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على ما
هداكم، فأكثر الناس قد ضلوا عن دينه، وحادوا عن شريعته، واستوجبوا سخطه ونقمته جل في
علاه، وقليل من هداهم إلى ما يحبه ويرضاه من الدين، وكنتم من هذا القليل بفضل الله
تعالى عليكم، وهدايته لكم."وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ". البقرة: 198.
فيا
أيها المسلم: تذكّر أنك في كلّ ركعة من صلاتك تدعو ربك أن يهديك الصراط المستقيم،
وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم والضالين. فتأمل هذا الدعاء ومقاصده.
فإذا كانت هذه الإحتفالات خاصة بالنصارى،
فكيف ترضى لنفسك بصفتك مسلما أن تقلدهم فيها وتتشبه بهم، وقد قال صلى الله عليه
وسلم فيما رواه أبو داود: "من تشبه بقوم فهو منهم". وله عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جدّه: "ليس منا من تشبّه بغيرنا لا تشبّهوا باليهود
والنصارى". وقال تعالى: "ولن
ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت
أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير". البقرة:120.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعتزوا بدينكم
وبتاريخكم، وانتبهوا إلى أعيادكم، واملأوا قلوبكم بأسرارها، واربطوا حياتكم
بسننها، ولكم أن تقيموا ما شئتم من الإحتفالات الإنسانية التي تظهرون بها سروركم
بنعم الله الخاصة عليكم، تظفروا بالمجد والكرامة، وتحافظوا على شخصيتكم .
وفقني
الله وإياكم إلى ما فيه الخير والرشاد، ونسأله سبحانه
أن يحسن ختامنا وإياكم.. وأن يختم لنا بجنات عرضها السماوات والأرض.. اللهم إنا
نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها حالنا، وتؤلف بها بين قلوبنا يا
أرحم الراحمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق