السبت، 23 نوفمبر 2013

الفرح سلوكٌ راق، يا أنصار الفريق الوطني



الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، عم بنعمته الخلائق كلها، على مدار الأعوام والسنين، وأكمل دين الإسلام ورضيه ديناً لعباده المؤمنين.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
  
أما بعد، فيا عباد الله: بالشكر والإيمان تدوم النعم، وبالكفر والعصيان تحل النقم، فحافظوا على نعم الله التي بين أيديكم يدمها عليكم، واحذروا كل الحذر من كفر النعم فيذهبها الله من بين أيديكم، يقول الله تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد"، ويقول عز وجل: "وإن تعدوا نعمة الله لا يحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ."
أيها المسلمون: إنَّ السرورَ والفرَحَ بِنَيلِ المطالِبِ وإدراك المحبوبات والمآرب وكذلك الحزن بفقد المطالب وفوات المحبوبات، مِن صفات البشر، ومما جُبِلَت عليه النفوس.
فالنفس البشرية تعتريها الأحوال المختلفة، يمر عليها أحوال الفرح والترح، والسرور والسعادة، والضيق والضنك، أمر بديهي، وكل حال من هذه الأحوال قد يعرض النفس إلى الشطط وعدم الاتزان، فربما في حالٍ من هذه الأحوال تنحرف النفس عن مسارها واستقامتها، يستغلها الشيطان فرصة فيسول للعبد ويزين وينفث ضلالاته حتى يحيد بالعبد عن الطريق، فالشيطان يستغل التهاب المشاعر الإنسانية من فرح، وترح، وغضب، وحب وبغض .... الخ، فيحاول معهم حتى يتحقق له المراد.

ويجب على العبد المؤمن حين وقت الفرح أو الحزن أن يلتزم الجادة في كل أحواله من فرح وترح وغير ذلك ويرتبط دائماً بمولاه، ويحذر كل الحذر من الشطط والانحراف..
ولقد وجّه الإسلام العاطفة الملتهبة بالفرح، إلى الفرح بفضل الله وبهدايته، قال تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"
فعلى المسلم حين الفرح، أن يحذر مكر الله سبحانه، لأن الفرح قد يجعل صاحبه ينسى المُنعم، وهو الله سبحانه، فيكون سبب لسلب النعمة، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ، لا ينبغي له أن يفارقه الحذر، فالفرح متى كان لله، وبما منّ الله به، مقارنا للخوف والحذر، لن يضر صاحبه. ومتى خلا من الحذر ضرّ وأفسد. 
وهذا كتاب الله جل جلاله، يشير إلى ألوان من الفرح المنحرف الضار، فيقول في سورة الأنعام: "فلما نسوا ما ذُكروا به  فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون". أي أن أهل الشرك والعناد والمعصية، نسوا أوامر الله واعرضوا عنها، وجعلوها وراء ظهورهم، ففتح الله عليهم أبواب الإستدراج والإمهال، فأعطاهم من متاع الحياة ما يريدون، حتى إذا فرحوا بالأموال والشهوات، أخذهم الله على غفلة، فإذا هم بائسون محرومون من كل خير.
أيها المسلمون وفي الوقت نفسه الذي دعا الله فيه الناس للحذر حين الفرح، فهو ـ سبحانه ـ لم يُرِد أن يكون باب السعي وراء الطيبات وفرح الإنتصارات مفتوحا على مصراعيه.. لأن النفس البشرية لن تقف عند حد, حتى لو كان حراماً، وستطالب دوماً بالمزيد، حتى لو كان إسرافاً، وسيصبح صاحبها كمن يشرب من ماء البحر، كلما شرب منه ازداد عطشاً... وهكذا حتى يصبح حالة مَرضية وانحرافاً و طغياناً.
 وقد عرض لنا القرآن الكريم  نموذج قارون، وتحدث عنه بإسهاب، حيث كان قارون من أتباع موسى على نبينا وعليه السلام، ولكنه رويداً رويداً راح يعبّ من خيرات الدنيا، ليس فقط من حلالها، بل تعدى ذلك إلى حرامها، فطغى واستبد تاركاً وراء ظهره إيمانه بالنبي موسى عليه السلام ورسالته وكل ما قد عاهد الله عليه، قال تعالى: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ". فقد وصل قارون إلى قمة الفرح، ولكن أي فرح هو هذا؟... 
فرح قارون كان فرح طغيان المال والشهوات، وفرح البطر بنعمة الله ونكران الجميل... والنتيجة: قال تعالى: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ".
وها هي القاعدة القرآنية لحركة الإنسان في الحياة: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". 77:القصص.
إنّها الدعوة الواضحة والصريحة للأخذ بكلّ أسباب الفرح، ولكن دون تغليب جانب على آخر.. نعم ـ أيها المسلمون ـ الفرحُ سلوكٌ راقٍ، وفِكرٌ رصينٌ، ومطلبٌ مهمٌّ، وهدفٌ منشود. والناسُ كلّ الناس يسعَى إلى فرحِ قلبِه، وزوالِ همِّه وغمِّه، وتفرُّق أحزانِه وآلامِه.
 ولكن .. ولكن على المسلم أن يظهر ذلك في إطار الشَّرع، وضوابِط الدِّين، ومُرتكَزات القِيَم والأخلاق دون خدشٍ للحياء. فالفرح يكون مذموما إذا كان ناتجًا عن الطغيان والتكبر والغفلة والخواء، وليس من شأن المسلم أن يكون مفراحًا إلى درجة الإسراف؛ إذ ما من شيء من أمور الدنيا إلا والإسراف يشينه، كما أن الاعتدال يزينه، إلا عمل الخير ولذلك قيل: لا خير في الإسراف ولا إسراف في الخير.
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ فإن الإسراف في الفرح سواء كان في الأعراس أو الإنتصارات الرياضية أو شبهها، مدعاة للخروج عن المقصود، بل ولربما أدى إلى الوقوع فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من معاصٍ أو ضجيج وأهازيج، تقلق الذاكر، وتنغص الشاكر.
 وهذا ـ وللأسف ـ ما حدث بعد تأهل الفريق الوطني لكأس العالم، فإن أبالسة الجن والإنس ما فوتوا الفرصة، فلقد زينوا لكثير من الشابات والشباب، ودفعوهم وبطرق شتى إلى الإنحراف بهذا الفرح إلى مخالفات عظمى، وسيئات كبرى، فعاثوا في الشوارع والساحات فسادا، وأرخصوا القيم العليا والمبادئ السامية التي نعيش عليها، ولا نقوم إلا بها..
أيها المسلمون:  إني عندما أقول هذا، فإني لا أدعو  لعدم الفرح بهذا الإنتصار، وإنما لنكشف عن الوجه الآخر الذي تحولت له كثير من مظاهر الفرح في مجتمعنا، وأنبه إلى ما انفرط فيها من معاص، فقد انقلبت  الأفراح إلى أتراح في كثير من الحالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

فيا عباد الله: قيِّدوا أفراحكم بشرع الله، وإياكم والتجاوزَ فيه بالقول أو بالعمل! وإياكم أن تأسوا على ما فاتكم، أو تتجاوزوا المشروع في الفرح بما آتاكم! فالله يقول: "لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". الحديد:23 . أي: مختال في نفسه، متكبِّر فخور على غيره، وتأملوا قول عكرمة واعملوا به، قال: "ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً، والحزن صبراً". فهذه قاعدةٌ حَرِيَّة بالتأمل. واتقوا الله لعلكم تفلحون..  
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..  

الخطبة ا لثانية
   الحمد لله، الحمد لله حمدًا كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، أحمدُه حمدًا لا انتهاءَ لأمَده، وأشكرُه شُكرًا لا إحصاءَ لعدده، الحمدُ لله عددَ خلقِه وزِنةَ عرشِه ورِضا نفسِه ومِدادَ كلماته، الحمدُ لله كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله النبيُّ المُصطفى والخليلُ المُجتبَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومن اقتفَى 
.
   أما بعد: فما أجمل - أيها الأحبة- أن ننطلق في أفراحنا من اعتزازنا بديننا، وأن نكون صادقين مع ربنا، شاكرين لأنعمه، سائلينه سبحانه أن يزيدنا من فضله..
ألا وإن الفرح الأكبر، والنعيم الأعظم، فرحٌ لا يفنَى، ونعيمٌ لا حدَّ لمُنتهاه، عندما يُوفَّقُ المُسلمُ لسعادة الأبَد في جنَّات النعيم، وهناك يفرحُ المؤمنون دون غيرِهم يوم القيامة، تتلألأُ وجوهُهم نورًا، ومن شدَّة الفرَح تظهرُ ضاحِكةً مُستبشِرَة، قال الله تعالى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم".  المطففين: 24 ، وقال سبحانه: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ".  القيامة: 22، 23. وقال سبحانه:  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ".  عبس: 38، 39.

    فاللهم إنا نسألُك الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل. اللهم إنا نسألُك من الخير كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلَم، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه عاجِلِه وآجلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلَم. اللهم إنا نسألُك فواتِح الخير وخواتِمَه وجوامِعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، ونسألُك الدرجات العُلَى من الجنة يا رب العالمين. اللهم أصلح حال شبابنا..واهدهم سبل النجاح و الفلاح.  اللهم نور حياتهم بالعلم، و زين أخلاقهم بالحلم، واجعلهم  من عبادك الطائعين.  اللهم تقبل بفضلك أعمالنا، وحقق بالزيادة آمالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا، واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، اللهم اغفر لآبائنا و أمهاتنا، وتجاوز عن سيئاتهم وسيئاتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين، يا ارحم الراحمين. اللهم أمنا في دورنا ووفق إلى الخير و الصلاح ولاة أمورنا، واجعل اللهم بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

الأحد، 17 نوفمبر 2013

القزع... وتقاليع قص الشعر

    قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم رحمهما الله: "لتتبعن سَنَن من قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ . قال فمن".؟ 
   وقال أيضا: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل يا رسول الله كفارس والروم؟. قال: ومَنِ الناس إلا أولئك؟".  
   
     نعم .. للأسف الشديد، إننا نرى فئاما من الشباب يتشبّهون بالكفار في لباسهم وسلوكهم وفي عاداتهم وأعيادهم، وربما تميل نفوسهم إلى حبّهم والإعجاب بهم!. 

    فما نشاهد من فعل بعض الشباب من حلق بعض الشعر وترك البعض، وذلك هو القزع الذي نُهي المسلم عن فعله، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن القزع، قال عبيد الله، قلت وما القزع؟.  فأشار لنا عبيد الله قال: إذا حُلق الصبي، وترك هاهنا شعره، وهاهنا وها هنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه... 

تعريف القزع:
قال في تاج العروس: القَزَع - محركة -: قطع من السحاب رقاق، كأنها ظل، إذا مرت من تحت السحابة الكبيرة. الواحدة: قزعة، ومنه حديث الاستسقاء: "وما في السماء قزعة"؛ أي: قطعة من الغيم.
 وقيل: القزع، السحاب المتفرق، وما في السماء قزعة؛ أي: لطخة غيم.
ثم قال: ومن المجاز: القزع: أن يحلق رأس الصبي، ويترك مواضع منه غير محلوقة؛ تشبيهًا بقزع السحاب، ومنه الحديث: "نهى عن القزع"؛ يعني: أخذ بعض الشعر وترك بعضه..

     والناظر في أحوال بعض الشباب يجد أن لهم في ذلك طرائق شتى، فمن الشباب من يحلق بعض رأسه من أسفل، ويجعل باقي الشعر على شكل دائرة ويحلق ما تحته، ومنهم من يجعل في وسط الرأس خطاً يبدأ من ناحيته إلى مؤخرة رأسه، كما أن هناك هي تسريحات كثيرة ، يدخل بعضها في "القزع" – كتسريحة "المارينز" أو غيرها فتمنع لسببين القزع، والتشبه بالكفار -، وبعضها لا قزع فيه غير أنه يختص بالكفار كنصب بعض الشعر وسبل الآخر، أو ما شابه ذلك . وهذا كله داخل في النهي، ويدخل في معنى القزع عدة صور نذكر منها:

 1ـ حلق الرأس غير مرتب، بأن يحلق من مواضع، وهذا لا ريب في كراهته. وهو مشوه أيضاً.
 2ـ أن يحلق وسطه ويترك جوانبه.
 3- أن يحلق جوانبه ويترك وسطه.
4ـ أن يحلق الناصية فقط ويترك القفا.
5ـ أن يحلق القفا منفردا عن الرأس بلا حاجة.

 فإن حلق لحجامة أو غيرها زالت الكراهة. قال المروزي: "سألت أبا عبد الله عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم". المغني" (1/125).

وحكم القَزَع: مكروه، إلا إذا كان على وجه التشبه بالكفار فهو محرّم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . أخرجه أبو داود

    اعلم ـ أُخَيَّ ـ إن أمثال هؤلاء إنما يعملون ذلك تقديرا لغيرهم، وحبًّا في الجري وراءهم، مندفعين بعامل خفيّ، يمكن أن يفسّره علماء النفس والإجتماع بعقدة النقص، أو عقدة الإحساس بالضعف، ضعف الشخصية ومحاولة تكميلها بما يظنونه كمالا، حين يتشبهون بالأقوياء..  حقا:
  
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها .. هوانا بها كانت على الناس أهونا

   فيا أيها الشاب: إن كنت تبحث عن الجمال فإياك والقزع؛ فإنه يشوه المنظر، ويوحي بالفراغ الروحي العلمي والأدبي.. ويحمل إيحاءات ودلالات سيئة عنك وعن توجهك.. واعلم أنك من أمة متميزة في دينها وقيمها وأخلاقها، معتزة بما آتاها الله من فضله، فخورة بدينها الإسلام، ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام.

فاللهم اهدنا واهد شبابنا إلى ما تحبه وترضاه. وجنبنا وإياهم منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، واغفر لنا ولهم ولجميع المسلمين..

السبت، 16 نوفمبر 2013

كرةُ القدم.. الهَوَسُ المتسلّطُ على عقولِ الأَجيال في العصرِ الحديثِ

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:  

  فإن في مجتمعنا مشكلة يجب أن نتحدث عنها. فقد صدّت عن ذكر الله وفتنت الشباب والكهول، وسلبت الأموال والطاقات، وأشاعت البغضاء والعداوات. هل تعلمون ما هي:

  إنها كرة القدم . . وما أَدراك ما كرةُ القدم؟. الهَوَسُ المتسلّطُ على عقولِ الأَجيال في العصرِ الحديثِ. من أَجلها تقام المعارك وتنشب الحروب وتموت الضحايا، ولأجلِها تُطَلَّق الزوجات وتقطَّع أَواصر القرباتِ بين الأفراد والجماعات، وما إلى ما لايذكر من الأضرار والسيئات...!.  

  ألا انّ ممارسة (كرة القدم) من الأُمور المشروعة، إِذ لا نعرف دليلاً يحرّمها، والأصل في الأشياء الاباحة، بل لا يبعُد أن تكون من المستحبّات، إذا مارسها المسلم ليتقوَّى بدنه، ويتخذها وسيلة لتكسبه قوة ونشاطا وحيوية، وقد رغّب الشرع في تعاطي الأَسباب المقوّية للبدنِ.  
   جاء في الحديث: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأَحبُّ إِلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلِّ خيرٌ". رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا عمر..". ففي هذا ما يدلّ على إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم بلعب الحبشة بالحراب، وما أقرّه في المسجد إلا ليراه العرب فيتعلمون.   

    ثم إذا فهمنا مقاصد الإِسلامِ ومنهجه في بناء المجتمعات، نجد كرة القدم من الألعاب الّتي يزكيها الإِسلام وتزكيها تعاليمه؛ فهي مدرسة تُعلّم دروسا في التجميع لا في التشتيت، وفي الوحدة لا في التفرّق، وفي الوُدّ لا في التباغض والعداوة. إنها لعبةٌ تؤكد أنّ الأَهداف لا يمكن أَن تُحَقَّقَ إِلاّ بالروح الجماعيّة، وأنَّ الفرد قليل بنفسه كثير بإِخوانِه.  

    ولكن للأسف.. فهذه اللعبة لا يمارسها ـ فعليّا ـ إِلا القليلون، ولكن الكثيرين يتابعونها على وجه مشين، فيوم تقام مباراة بين فريقين لامعين، فكأنّ الحرب الضروس قد أُعلنت، رفعت لها الرايات وانبرت لها الإذاعات، وهُيّئت لها الشاشاتُ، وأَعدّ المشجعون لها الأحجار والسكاكين والطبول والمزامير والأَناشيد الجماعيّة والهتافات القويّة!.  

    وما أَن تنجلي المعركة الحامية عن هزيمة أَحد الفريقين، حتّى ينتقل ميدان المعركة من ساحة الملعب، ليكون ميدانها في البيوت والمدارس، والمجلات والصحف، ومكاتب الموظفين والمقاهي والمنتديات. وما أَن تهدأ حدّتها، وتنجلي غمرتها، حتّى تبدأ معركة أخرى بمباراة ثانية.. وهلمّ جرّا. وإِذا رفعت صوت العقل لتناقش أَحد هؤلاءِ المصابين بالهَوَسِ الكروي، قال لك بملء شدقيه:(إِنّني رياضي)!. 

    نعم .. قد أصبحت هذه الرياضة وسيلة لتفريق الأمّة، وإِشاعة العداوة والبغضاء بين أفرادها، حيث أوجدت التعصّب المَقيت للفرق الرياضيّة المختلفة، فهذا يشجع فريقا، وذاكَ يشجّع آخر، بل إنّ أَهل البيت الواحد قد ينقسمون على أنفسهم، هذا يتبع فريقا، وذاك يتبع آخر، ولم يقف الأَمر عند حدّ التشجيع، بل تعدّاه إِلى سخرية أتباع الفريق المنتصر من أَتباع المنهزمين، وفي نهاية المطاف يكون هناك الشجار والعراك الّذي يدور بين مشجعي الفريقين، وسقوط الجرحى والقتلى بالمئاتِ، من ضحايا كرة القدم!.  

   نعم.. للأَسف، نحن لم نع الدرس، قلبنا الغاية إِلى وسيلة، والوسيلة إِلى غاية، وآمنّا بالشكل وكفرنا بالمضمون، واعتنينا بالمظهر وأَلقينا الجوهر وراء ظهورنا.  

  ما معنى أن أشجع ناديا وأتعصب له؟

   معنى ذلك أنّني ضحل التفكير، ضيّق الأفق، أنانيّ الطبع، مستبدّ برأيي، لا أفهم شيئا عن الروح الرياضيّة، ولا أجد من أنواع الرياضة إِلاّ التصفيق الأرعن، والهتاف المحموم. وإذا نهزم الفريق قام أنصاره بالخروج إلى الشوارع، فيُكسّرون ويَحرقون المتاجر والسيارات، ويُخربون المؤسسات العامة، والممتلكات الخاصة، وتعمّ الفوضى، وينعدم الأمن. 

     أخي: إِنّنا لا نحجر عليك في أن تنتميَ إِلى ناد أو فريق وتشجعه. نحن معك ولكن هنالك فرق كبير بين التشجيع والتعصب، ولغة الحجارة والطوب. إنّ الروح الرياضيّة تعلمنا أن نبتسم عند الهزيمة، ونتواضع عند النصر، وتعلمنا أنّ الأيام دول، فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسرّ.   
ألا إنّ الإسلام يُقرّ ويحضّ على الرياضة الهادفة النّظيفة، التي تُتّخذ وسيلة لا غاية، وتُلتمس طريقا إِلى إيجاد الإنسان القوي الفاضل المتميِّز بجسمه القويّ، وخُلقه النّقيّ، وعقله الذكِي، فمن حقّنا أن نتمتّع بالرياضة إذا كانت وسيلة لا غاية، واستمتاعا لا تعصّبا. فلا أحدٌ يستطيع أن يَفتي بتحريم كرة القدم، ولا أحدٌ يستطيع أن يحول بين الناس وبين حاجياتهم الضرورية لها، وإنما نقول: ليست الحياةُ كلّها لعبا، كما أنها ليست كلّها جدا، بل لا تصلح الحياة إلا بكليهما، ولكن كلٌّ على قدره.

   
فيا أيها المباركون: إنّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يضع لنا المثل الأَعلى في الروحِ الرياضية، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كانت العضباء ـ ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ لا تُسبَق، فجاء أعرابيّ على قَعود له فسابقها فسبقها، وكأنّ ذلك شقّ على أصحاب النبيّ. ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهز الفرصة، ليعلّمهم الروح الرياضية، ويعطيهم درسا في أنّ الجلوس على القمة في الدنيا لا يدوم لأحد، فقال عليه الصلاة والسلام: "إِنّ حقّا على الله ـ عزّ وجلّ ـ ألاّ يرفع شيئا من الدّنيا إلاّ وضعه".   

  ألا ما أحوجنا إلى إدراك هذه المعاني السامية، التي فيها حياتنا، وعزة أمتنا، وامتداد رسالتنا، ووحدة صفنا.   

  أسألُ الله لنا وللجميع التوفيق والهداية، ولفريقنا الفوز والريادة..  

   اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما. اللهم وفقنا ووفق شباب المسلمين للعمل بما يرضيك، وجنبنا وإياهم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، واهدنا وإياهم سبل السلام، برحمتك يا أرحم الراحمين..
 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق