الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشّتيتَينِ



وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشّتيتَينِ بَعدَما * يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا
هذا بيت من قصيدةٍ تسمى القصيدة المؤنسة، وسميت بذلك لأنه كثيرا ما كان يرددها صاحبها، وهو قيس بن الملوح (645 ـ 688)، شاعر عربي من أهل نجد، عاش في فترة خلافة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، وهو أحد القيسين الآخر: هو قيس بن ذريح مجنون لبنى المتوفي عام688م.. أول هذه القصيدة:
.
تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا * وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا
وَيَومٍ كَظِلِّ الرُمحِ قَصَّرتُ ظِلَّهُ * بِلَيلى فَلَهّاني وَما كُنتُ لاهِيا
بِثَمدينَ لاحَت نارُ لَيلى وَصُحبَتي * بِذاتِ الغَضى تُزجي المَطِيَّ النَواجِيا
    شاعرنا أحب ليلى بنت سعد العامري ابنة عمه، حيث نشأ معها وتربيا وكبرا سويًا حيث كانا يرعيان مواشي والديهما فأحب أحدهما الآخر فكانا بحق رفيقين في الطفولة والصبا فعشقها وهام بها. وكما هي العادة في البادية، عندما كبرت ليلى حجبت عنه، وهكذا نجد قيس وقد اشتد به الوجد يتذكر أيام الصبا البريئة ويتمنى لها أن تعود كما كانت كما يتبين من أول قصيدته، وذلك لينعم بالحياة في جوارها.. لقد كانت ليلى في عيونه تعني الوجود بكل ما فيه، حتى أنه يقول:  
فَما طَلَعَ النَجمُ الَّذي يُهتَدى بِهِ * وَلا الصُبحُ إِلّا هَيَّجا ذِكرَها لِيا
وَلا سِرتُ ميلاً مِن دِمَشقَ وَلا بَدا * سُهَيلٌ لِأَهلِ الشامِ إِلّا بَدا لِيا
وَلا سُمِّيَت عِندي لَها مِن سَمِيَّةٍ * مِنَ الناسِ إِلّا بَلَّ دَمعي رِدائِيا
وَلا هَبَّتِ الريحُ الجُنوبُ لِأَرضِها * مِنَ اللَيلِ إِلّا بِتُّ لِلريحِ حانِيا
    بحق هي قصيدة من أعذب ما نظمه مجنون ليلى في ليلاه ، ويكاد كل بيتٍ فيها يتقطّر حنيناً ووجداً وأنيناً، حتى تسمعه يقول:   
وإنى لأستغشى وما بى نعسة * لعل خيلاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلنى * أحدث عنك النفس يا ليل خاليا
   فلتراجع القصيدة في مظانها، ودون أن أنسى أذكّركم بقول أحدهم: وددت لو أن قيساً كان يعيش في زماننا وقمنا باستنساخ ليلى له، ولكنني لا أظنه سيهواها، لأن هواه في ليلاه كان عشق الروح والجسد، حتى أننا نراه يذكر أن سبب بلائه ومرضه هو بعد ليلى، حين يأمر أصحابه أن يقربوا له أكفان الموت، لأنه سوف يموت إن بخل الناس عليه بليلى:  
خليلي إن ضَنُّوا بليلى فقرِّبا * لي النعش والأكفان واستغفرا ليا
  إيهٍ غفر الله لنا ولك يا قيس.. : بحق قد نجحت في أن جعلتنا نرشف بقايا حبك لليلاك في رائعتك هذه.. فاللهم يا رب اجمع كل قيس بليلاه حلالا طيبا..

خطف الأطفال.. حوادثُ تهز المجتمع من هولها





     إنه لمن دواعي الحزن والأسى ما نسمعه اليوم ونقرؤه في وسائل الإعلام من خطف أطفال أبرياء، جاءوا إلى هذه الحياة ليملأوها بابتسامتهم البريئـة، وحركاتهم الوديعة، إنهم فلذة الأكباد، ومبلغ الفرح والأنس في الحياة..

    ولكن بعض الأيادي الآثمة والقلوب الفاجرة لتمتدّ إليها بالخطف، ولربما بالقتل.. ظاهرة مقيتة غريبة على مجتمعنا، لم نسمع بها من قبل، ولم نشاهدها في الماضي، ولا أجد أحسن من جواب يعقوب عليه السلام: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ". يوسف:18 . .
    حقا.. إن اختطاف الأطفال أمرٌ مروّع ومؤلم لأي إنسان يملك مثقال ذرة من عقل وإيمان.. أيعقل أن يوجد بين أظهرنا من هو أشد من الذئاب في افتراسها؟!. إن من يحمل هذا القلب الأسود على أبناء وأخوات المؤمنين ليس له الحقّ في أن يعيش بيننا، بله لا حقّ له في الحياة.  .
    هؤلاء إخوة يوسف عليه السلام اختطفوه، ولكن هل قُتل؟، هل فُعل به الأفاعيل؟.
    إنه ضمير واحد جعلهم يرتعشون لهول ما هم مقدمون عليه، واقترح حلاً يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم، قال تعالى:: "قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ" يوسف:10.
     وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف يوم فتح مكة عشرة آلاف مقاتل من أصحابه، من أجل عصفورة كانت تطير فوق رأسه، تذهب وتعود، وقال غاضبا مستنكرا: من فجع هذه بأفراخها، ردوا عليها أفراخها؟. فعبدالله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصيح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فجع هذه بفرخيها؟. قال، فقلنا: نحن. قال: فردوهما". رواه أبو داود والحاكم. و قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. .
     يا لروعة هذه القيم والأخلاق: "من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها"..
   إيهٍ .. يا رحمة الله المهداة، رحمةٌ وسعت حتى شملت البهائم والطيور..   

   هل صُمَّ عنها قلب هذا الأعوج الأهوج؟؟ .. .
     إن ما يحدث بيننا من خطف الأطفال الأبرياء من حين إلى آخر على أياد آثمة فاجـرة لا تخشى الله ولا ترعى في مؤمن إلا ولا ذمة، لجرمٌ تقشعر له الأبدان وتنخلع له القلوب، وإن هذا الذي يقوم بهذا العمل الآثم لجرثومة وورم خبيث ينهش جسم المجتمع، ينبغي استئصاله قبل أن يستشري الداء فيعز الدواء وذلك بتفعيل عقوبة الإعدام أو القصاص التي أمر بها الله عزّ وجل لردع المجرمين. قال تعالى: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" المائدة/33 . .
      ويا أيها الآباء والأمهات: إن أولادكم هم فلذة أكبادكم، وأمانة إئتمنكم الله عليها، فحافظوا على الأمانـة وارعوها حق الرعاية، راقبوهم ولا تغفلوا عنهم، تحسّسوا أخبارهم، وتفقدوا أحوالهم، واعلموا أنكم عنهم مسؤولون..  

    اللهم يا رب يوسف، يا من رددت يوسف إلى أبيه، رُد من اختطف إلى ذويه، وأفرحهم بعودته إليهم سالما، اللهم وآمنا في أوطاننا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، الله أكبر الله أكبر الله أكبر على أولئك الظالمين، والعاقبة الحسنة للمتقين..

الإفساد قد يقع من الطيبين، كما يقع من الأعداء المتربصين..



 قال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا". رواه البخاري عن النعمان بن بشير..  .
      في هذا الحديث ـ أيها الكرام ـ يشبه صلى الله عليه وسلم المجتمع بأفراده بأناس ركبوا سفينة واقتسموا الأمكنة فيها، فصار نصيب بعضهم أعلاها، ونصيب آخرين أسفلها..
    وهؤلاء الذين هم في الأسفل أرادوا أن يخرقوا نصيبهم للحصول على الماء، كانت نيتهم حسنة وعذرهم مقبولا، فهم يريدون الحصول على الماء بطريقة سهلة ومسيرة كما حال من هم في أعلى السفينة، هم لا يريدون الإكثار من الصعود إلى سطح السفينة والنزول، حتى لا يتأذى من هم في أعلى السفينة..  
     ولكن قد غفل هؤلاء على أن هذا الخرق الصغير سيؤدي إن تُركوا إلى هلاك الجميع، ويكون معنى "أصغر خرق" هو - كما قال مصطفى صادق الرافعي - أوسع قبر... .
     وللأسف ما نراه في مجتمعاتنا العربية أنها تسير من غفلة إلى أخرى، ومن ضياع إلى آخر، ولا تستفيد من التجارب التي مرت بها، إيه.. واتسع الخرق على الراقع.. ألا إن حسن النية لا يجعل الشر خيراً، ولا الباطل حقا، لأن الفعل في حد ذاته خطأ، ولا يمكن أن يحكم عليه بالصواب اعتماداً على حسن نية الفاعلين.. .
         فالإفساد قد يقع من الطيبين خطأ أو جهلا، كما يقع من الأعداء المتربصين الذين يظهرون حب الأوطان، ويبطنون الغش والكفران.. والخطأ أو الفساد الذي يرتكبه الفرد لا يصيب صاحبه فقط بل يصيب المجموع.. وهنا تظهر القيادة الحكيمة الرحيمة التي تحل المشاكل قبل أن تغرق السفينة.
       قال صلى الله عليه وسلم: "إن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"، إنه إلغاء للغة الجاهلين، الذين إذا أنكر عليهم منكر قالوا: هذه حرية شخصية، ولا تتدخل في شئون الناس، وخصوصياتهم وما أشبه ذلك.. .
        ألا وإن مصالح الدنيا ومفاسدها إنما تعرف كما ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام "ص8": "تعرف بالضرورة والتجربة والعادة والظنّ المعتبر، وأن من أراد أن يعرف المصلحة والمفسدة فليعرض ذلك على عقله ثم يبني عليه الحكم، ولا يخرج عن ذلك إلا ما كان من باب التعبد المحض". .  
         لذا يجب أن نعي السبل القويمة لحراسة المصالح العليا للأوطان حتى لا تلتهمها الأنانيات الجامحة، وتغرقها في وحل الفتن.. ولا بدّ من الحزم اللازم لتشديد المراقبة والمحاسبة حتى لا يغرق الجميع ويهلكوا. وليتأكد الجميع أنه في الأزمات تزيغ قلوب أقوام، وتزول أحلام أقوام، وتتزلزل عقائد أقوام.. ولكن بالمقابل: يربط الله على قلوب أقوام فيزدادون إيماناً مع إيمانهم، وثباتاً إلى ثباتهم، وتسليماً على تسليمهم.
 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق