الأربعاء، 25 يونيو 2014

موضوع الخطبة: شهر رمضان الحبيب الذي طال انتظاره




الخطبة الأولى
      الحمد لله يمنُّ على عباده بمواسم الخير أفراحًا، ويدفع عنهم بلطفه أسباب الردى شرورًا وأتراحًا، أحمده تعالى وأشكره شكرًا يتجدد ويتألق غدوًا ورواحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدع الكائنات أرواحًا وأشباحًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله رافع لواء الدين دعوة وإصلاحًا، والهادي إلى طريق الرشاد سعادة وفلاحًا.  صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خيار هذه الأمة تقىً وصلاحًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام مساءً وصباحًا، وسلم تسليمًا كثيرًا.
       أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي العدّة العتيدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، ونَشَد عزًا وفلاحًا، وقَصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
    أيها المسلمون، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ".   البقرة:183.
      "اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال خير ورشد".
      عباد الله: بهذه المعاني كان عليه الصلاة والسلام يستقبل رمضان، إيذانا منه للبشرية جمعاء وللمسلمين خاصة، بأن دين الله عزّ وجل إنما جاء لتطهير العقائد وتربية النفوس وصقل الأفكار الهائجة التي تمردت على فطرة خالقها، وسلكت دون الإسلام سبيلا، ورمضان بالمفهوم الذي في ـ استشرافه: أمن وإيمان، سلامة وإسلام ـ مناسبة لتجديد الولاء لمثل هذه المعاني، ومحطة للتذكر والتذكار..
     فالواجب يملي علينا ونحن نستقبل هذا الشهر المبارك، أن نقف مرة أخرى لمراجعة ذواتنا بصدق، لأن ذلك هو الكفيل باسترجاع أمجاد زمان، وتدارك ما فات، يوم أن كانت الشمس لا تغرب على دولة الإسلام، ويوم أن كان ولي أمر المسلمين يخاطب السحاب قائلا: سيأتينا خراجك أينما كنت..
   فإذا ما كان رمضان فرصة للإنتصار على شهوات النفس ورغباتها، فلننتصر نحن على أنانيتنا، ولنحقق معنى التقوى لننال العزة والإكرام.
  أيها المسلمون: إن شهر رمضان هو الحبيب الذي طال انتظاره، واستبدّ الشوق بالقلوب للقياه، وإن لقدوم الحبيب الغائب لفرحة ما أروعها من فرحة.. ولقد كان سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان يهتمون بشهر رمضان، ويفرحون بقدومه، وأيّ فرح أعظم من الإخبار بقرب رمضان موسم الخيرات والمغفرة وتنزل الرحمات.. ها هو ذا صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويبشرنا، فيقول: "أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبوب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم".  رواه النسائي والبيهقي.
   قال ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضُهم بعضاً بشهر رمضان.
وكيف لا يُـبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟
وكيف لا يـبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟
وكيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟
إنها البشارة التي عمل لها العاملون.. وشمر لها المشمّرون.. وفرح بقدومها المؤمنون ..
 فيا عبد الله: أين فرحتك؟ وأين شوقك؟! 
إذا رمضان أتى مقبلاً ** فأقبل فبالخير يستقبلُ
لعـــــــلك تخطـــــئه قابلاً ** وتأتي بعـذر فلا يقـــبلُ
    عباد الله: إن بلوغ رمضان نعمة كبرى يقدّرها الصالحون المشمرون, وإن الواجب علينا هو استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، وإنها لئن فاتت، كانت حسرة ما بعدها حسرة, فأيّ خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين الأمين جبريل عليه السلام فقال: "من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله فقل آمين، فقلت آمين".  صحيح ابن حبان.  
    عباد الله: إن شهر رمضان هو شهر الطاعات بكل أنواعها، صيام وقيام جود وقرآن وصلوات وإحسان وتهجد وتراويح وأذكار وتسابيح..
     هذا الشهر العظيم له في نفوس الصالحين بهجة، لأن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ولأن أصحاب النفوس الطاهرة تعلوا أصحابها حين تغتنم الفرصة الذهبية والهدية الإلهية، فتترك كثيرا من اللذائذ وتنفطم عن كثير من الرغائب، لأن الراحة لا تنال أبدا بالراحة ولأن سلعة الله غالية، أما عبّاد المادة وعبّاد الشهوات وأرباب الهوى فإنهم يعيشون لغرائزهم وأهوائهم وهم الذين أخبر عنهم المولى في قوله: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون".
      فهناك من الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد وصنوف المطاعم والمشارب، ويقضي نهاره نائما ويقطع ليله هائما, وفيهم من جعل رمضانه بيع وشراء يشتغل به عن المسابقة إلى الخيرات وشهود الصلوات في الجماعات، فهل ترون يا إخوة الإيمان أضعف همة وأنجس بضاعة، ممن أنعم الله عليه بإدراك شهر المغفرة ثم لم يتعرض فيه للنفحات؟..
جاء شهر الخيرات بالبركات ** فأكرم به من زائرٍ هو آت
    فيا أمة الصيام ويا أمة القيام: اتقوا الله وأكرموا هذا الزائر، فإنه أحق بالإكرام، جاهدوا النفوس بالطاعات،و تقربوا إلى ربكم وابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، وجدّدوا العهد مع الله، وشدوا العزم على الاستقامة، واتقوا الله فإن تقوى الله أقوى وأقوم.
إذا هلّ الهلال على العبادة ** فسارع يا أخيّ لجمع الزاد
فإن الشـــــــــــهر أيام ستـــــمـــــــضي ** وتبقى حســــرة لذوي الرقــــاد
    جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه برحمته، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم رحمة الله".
فاللهم أهله علينا بالخير والإيمان، والسلامة والإسلام، والفراغ من الشغل والسلامة من الأسقام، برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين.. هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
     أما بعد، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أن رجلين من بُلَىٍّ (حي من قبيلة قضاعة) قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفى. قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذِن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدّثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون؟. فقالوا :يا رسول الله، هذا كان أشدّ الرجلين اجتهاداً، ثم استُشهد، ودخل هذا الآخِرُ الجنةَ قبله!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض.
   الله أكبر، إن بلوغَ رمضانَ نعمةٌ عظيمة، وفضلٌ كبير من الله تعالى، حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان .
   فاقدروا لهذا الشهر قدره ـ أيها المسلمون ـ وإياكم أن تفَرِّطوا في لحظاته، فضلا عن أيامه ولياليه. إياكم أن تجعلوا أيام رمضان كأيامكم العادية، بل اجعلوها غرةً بيضاءَ في جبين أيام أعماركم . قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك، عن الكذب، والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء".
      فيا عبد الله .. إذا كنت قبل رمضان كسولاً عن شهود الصلوات في المساجد، فاعقد العزم في رمضان على عمارة بيوت الله، عسى الله تعالى أن يوفقك لذلك حتى الممات. وإذا كنت شحيحاً بالمال، فاجعل رمضان موسماً للبذل والجود،  فهو شهر الجود والإحسان. وإذا كنت غافلاً عن ذكر الله تعالى، فاجعل رمضان أيام ذكر ودعاء، وتلاوة لكتاب ربك تعالى، فهو شهر القرآن.
   وبعد، أيها المسلمون ـ أروا الله من أنفسكم خيرًا، افتحوا صفحة جديدة من حياتكم، مسطرة بأحرف الخير والبر والتقوى والعمل الصالح.
أتى رمضان مزرعــــــــــة العـــــباد * لتطهـــــــــــــــــير القلوب من الفساد
فأدّ حقــــــوقه قــــــــــولا وفــــــــعــــلا * وزادك فاتّخِـــــــــــــــــذه إلى المعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها * تــــــــــــــــأوّه نادما يـــــــــوم الحصــــــــاد
    فاللهم بلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والفراغ من الأشغال، والسلامة من الأسقام، والتوفيق لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، اللهم اجعله شهر عزٍّ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، إنك خير مسؤول وأكرم مرتجى مأمول. برحمتك يا أرحم الراحمين.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق